يَبْدو أَنَّ هذا العيدَ قد يمرُّ بلا فرحٍ ولا أَمانٍ، ولكنَّنا لنْ ندَعَهُ يمرُّ بلا رجاءٍ ولا إيمان. لقد ثَقُلَتْ على الناسِ الأَحْمالَ ولا بدَّ منَ الاصْغاءِ إلى قَوْلِ المسيحِ الفادي: تعالَوْا إليَّ أَيُّها الثَّقيلو الأَحْمال وأَنا أُريحُكُم، ونحن في كلِّ هذه الأَوْبِئَةِ والآلامِ وفي مِلْءِ الخَوْفِ والقَلَقِ، وفي غِيابِ الفَرَحِ الذي كُنَّا نَعيشُه في مِثْلِ هذه الأَيَّام، سنَرْجِعُ إلى الأُمِّ الحَنون التي طلبَ إلَيْها المسيحُ مِنْ على صَليبِهِ أَنْ تتبَنَّانا، لتقولَ لابْنِها: لَيْسَ لدى أَبْنائي خَمْرٌ فامْلَأْ دِنانَهم مِنْ حُبِّك واطْرُدْ بقوَّتِكَ شَياطينَ الأَوْبئَةِ والخَوْفِ والقَلَق، كما طَرَدْتَها مِنَ الأَبْرَصِ والنَّازِفَةِ والأَعْمَى والمُخَلَّعِ وذاك الصَّبيِّ المَسْكون، ليعودَ الفرحُ إلى قُلوبِ أَبْنائي.
إزاءَ طلبِ العذراء هذا واسْتِجابَةِ الربِّ لِطَلَبِ أُمِّهِ التي لَمْ يَرْفُضْ لها طلبًا أَبدًا، عَلَيْنا أَنْ نقْرَأَ جَيِّدًا علاماتِ الأَزْمِنَةِ ونفْهَمَ أَنَّ المِحَنَ تُصْقِلُ القلوبَ والعُقول، إنْ عَرَفَ الإنسانُ كيف يخرُجُ مِنْها مُشْبَعًا بالإيمان، ومُسَلَّحًا بالرَّجاءِ وآخِذًا منَ المَحَبَّةِ دِرْعًا لا تَخْتَرِقُهُ سِهامُ الشَّيْطان، فيَعْرفَ أَنْ لَيْسَ بالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيا الإنسان، ويَعي تمامَ الوَعي، أَنَّ وِسْعَ الأَهْراءِ لا يؤَمِّنُ له راحةَ البالِ ولا الاسْتِقْرارَ ولا الطمأْنينةَ إلى غدٍ يحلمُ أَنْ يَبْنِيَهُ وَحْدَهُ بعيدًا عنِ الله.
أَلَيْسَ هذا ما نحن فيه اليَوْم؟ أَلَمْ نُفرِغْ رُفوفَ المَحالِ التّجاريَّةِ مِنْ كلِّ مَا يُؤْكَلُ خَوْفًا منَ الجوعِ أَوِ الحِصار؟. أَلَمْ نَصرفْ أَيَّامًا في المصارفِ نَشْحَذُ مالَنا لنُخَبِّئَهُ قِرْشًا أَبْيَضَ للأَيَّامِ السُّود؟ أَلَيْسَ هذا مَا فَعَلَهُ ذاك الذي وَسَّعَ أَهْراءَهُ وقالَ لنَفْسِهِ: كُلي وتَنَعَّمي فعِنْدَكِ خَيْراتٌ كَثيرَة؟ وإذا بصَوْتٍ يقولُ له: يا جاهِل، اليَوْم تُؤْخَذُ روحُكَ مِنْكَ. واليَوْمَ وبعد انْتشارِ وَباءِ الكورونا، هَلْ تَسَاءَلَ النَّاسُ الذين رَأَوْا في المالِ والمُقْتَنَى والمُجْتَنَى راحةً لهم وحمايَةً منَ الوَباء؟ هَلْ عَرَفَ الإنْسانُ المِسْكينُ حَجْمَ قُوَّتِهِ وعِظَمَ جَبَروتِه، وأَدْرَكَ أَنَّه بكلِّ مالِهِ وذَهَبِهِ ونَفْطِهِ وطائراتِهِ وأَسْلِحَتِهِ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُقاوِمَ مَخْلوقًا أَقَلَّ حَجْمًا مِنْ ذرَّةِ رَماد؟ أَمامَ هذا الضُّعْفِ السَّاحِقِ، هَلِ اسْتَفاقَتِ البَشَرِيَّةُ مِنْ تِيهِها وطَيْشِها وجَهَالاتِها لتَعودَ إلى رَبِّها مُعْترِفَةً بأَنَّه الخالِقُ الضَّابِطُ الكُلِّ وأَنَّها وَحْدَها مِنْ دونِهِ غارقةٌ في العَجْزِ والمَرَضِ والمَوْت؟.
يا قديسة مريم، يا كُلِّيَّةَ المَحَبَّة، يا مَنْ كُنْتِ أَمامَ الصليب تتامّلين وجهه السماوي المتألّم، أَميلي وَجْهَكِ العَطوفِ وانْظُري آلامَ أَبْنائِكِ الخائِفينَ القَلِقين، والآخرين المُصابين بالوَباءِ المُميتِ، وأُولئِكَ المُهَدَّدينَ بالإصابةِ، وتشفَّعي بِهِم جَميعًا عِنْدَ ابْنِكِ الذي جاء رجاءً للبشر وحبًّا وفداء ، ليَرْفَعَ عَنِ الأَرْضِ وسُكَّانِها وَيْلات الغضبِ وكلَّ ما يُهَدِّدُ الإنْسانيَّةَ بالمَوْتِ والأَلَمِ والخَوْف، وهو الذي طالَما قالَ لنا: لا تخافوا أَنا معكم.
نَسْأَلُكَ اليَوْمَ، ونحن بأَمَسِّ الحاجَةِ إلى عَوْنِكَ، أَنْ تَرْمِيَ وِشاحَكَ الأَزْرَقَ الموشى بالحَنانِ والحُب، ليُزَنِّرَ أَرْضَنا ويَسْتُرَ عُيوبَنا ويَمْنَعَ عَنَّا كلَّ المَصائِبِ والمَهالِك، ونحن نَرْتَمي في حِضْنِكَ أَمامَ الدَّيَّانِ الفادي وكلُّنا إيمانٌ ورجاءٌ أَنَّكَ تَحْمينا بقُوَّةِ ابْنِكَ لَهُ المَجْدُ إلى الأَبِدِ ولكَ الحُبُّ والإكْرام.