في الوقت الذي تنشغل فيه مختلف القوى السياسية في إطلاق الوعود الإنتخابية، التي تتنافس على تكبير حجمها علّها تقود إلى إغراء الناخبين بالتصويت لها، تزداد معاناة المواطنين يوماً بعد آخر على كافة المستويات، لا سيما على المستوى الصحّي في حال اضطر أحدهم للدخول إلى المستشفى، نظراً إلى أن التكاليف باتت تتخطى قيمة رواتبهم عشرات الأضعاف، في حين أن تعرفة الجّهات الضامنة لا تزال على حالها، وبالتالي لم تعد تسدّ الحدّ الأدنى من الفاتورة الإستشفائيّة.
في هذا السياق، تأتي قضية الأستاذ في الجامعة اللبنانية نضال علي، الذي وصل به الحال إلى طلب الموت الرحيم، بعد أن علم أن صندوق التعاضد لن يغطي أكثر من 17 مليوناً و500 ألف ليرة من أصل 100 مليون ليرة و2700 دولار، هي كلفة عملية قلب مفتوح مستعجلة. ويشير الدكتور علي، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن راتبه بحدود 5 ملايين ونصف المليون ليرة لبنانية، وبالتالي هو في الأصل لا يكفيه لتأمين حاجات أسرته، وهو الأب لأربعة أبناء.
ويلفت علي إلى أنه بعد مساعدة من رئيس مجلس إدارة صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية الدكتور ربيع مكوك وأحد النواب تم تخفيض تكاليف العملية الجراحية (خُفّض المبلغ إلى 80 مليون ليرة و1450 دولاراً)، التي أجريت له قبل أيام قليلة، لكنه يكشف أن المبلغ المطلوب تم تأمينه بالديون، قبل أن يتفاجأ من جديد أن عليه دفع 20 مليون ليرة إضافيّة، لكن التواصل مع إدارة المستشفى لا يزال مستمراً لمعالجة الأمر.
هذا الواقع المرير، الذي يدفع علي للتأكيد على أن "مشكلتنا مع الدولة وليست مع الصندوق"، يؤكّد أن التعاضد هو لـ"كرامة الأساتذة"، ويشير إلى أنّ ما حصل معه دفع زملاؤه للتفكير في إطلاق صندوق للتبرّع للأساتذة المرضى. لكن السؤال يبقى عن واجبات الدولة، أو القوى السياسية الموجودة في السلطة، التي تترك المواطنين يواجهون تداعيات الإنهيار المالي والإقتصادي من دون أيّ تدخل من قبلها، فهل بات الإستشفاء، الذي هو من حقوق الإنسان الأساسية، هو لمن يملك المال فقط؟.
من جانبه، يوضح رئيس مجلس إدارة صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، في حديث لـ"النشرة"، أن هذه المشكلة عامّة لا تتعلق فقط بأساتذة الجامعة اللبنانية، بل هي مرتبطة بالتعرفة الموضوعة من قبل جميع الجّهات الضامنة، أيّ أن كل إنسان مضمون من الممكن أن يتعرّض لنفس المشكلة التي تعرّض لها الدكتور نضال علي.
ويكشف مكّوك أن هذه الأزمة، فيما يتعلق بأساتذة الجامعة اللبنانية كبيرة جداً، حيث أن هذه الحالات تتكرر، نظراً إلى أن أيّ عملية، كالمرارة على سبيل المثال، تتطلب منهم أن يدفعوا مبالغ طائلة غير قادرين على تحملها.
في هذا الإطار، يعلّق رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي، في حديث لـ"النشرة"، بحرقة على هذا الواقع بالقول: "البلد إنهار لماذا نستمر في الإختباء خلف اصبعنا"، ويشير إلى أنه يومياً لديه مئات الإتّصالات حول الموضوع نفسه، فلا أدوية متوفّرة والفاتورة الإستشفائيّة باتت خياليّة لأنّ المستلزمات الطبّية مستوردة، ويضيف: "حتى الأدوية العادية باتت خارج قدرة اللبناني على التحمل".
وفي حين يشدّد عراجي على أنّ لبنان لا يستطيع الإستمرار بهذه الطريقة، يلفت إلى أنّ أهل أحد المرضى الذين يعرفهم اضطروا لبيع منزلهم لتسديد فاتورة المستشفى، ويوضح أن وزارة الصحة رفعت تعرفتها مرتين ونصف المرة بينما الجيش رفعها 4 أضعاف، لكن باقي الجهات الضامنة لا تستطيع ذلك بسبب واقعها المالي، في حين أنّ أصحاب المستشفيات يعتبرون أن الأسعار، بحسب سعر صرف الدولار، تضاعفت 16 مرة.
عند السؤال عن الحلّ، لا يتردّد عراجي بالتشديد على أن ليس هناك من حلول، ويقول: "لم أترك وسيلة لمعالجة هذا الواقع من دون أن أنجح في ذلك"، ويضيف: "ما يحصل مع اللبنانيين حرام"، ويرى أن المطلوب ربما حالة من الإستقرار السياسي تساهم بالحد من الإرتفاع الحاصل في سعر الصرف، بالإضافة إلى مساعدات دولية من قبل الجهات المعنية، بالرغم من تأكيده أنه توجه إلى هذه الجهات في الماضي، فكان جاوبها: "ألّفوا حكومة وبعد تأليف الحكومة بات اعملوا إصلاحات".
في المحصلة، أصاب الإنهيار الإقتصادي القطاع الصحي، فتدارك الأمر ورفع أسعاره لتأمين الإستمرارية، ليبقى المريض هو الحلقة الأضعف، ولا حلّ أمامه عند وقوعه بالمرض سوى "التسوّل" أو طلب المعجزة الإلهيّة للشفاء، في حين أنّ أكبر هموم القوى السّياسية هي التنافس على الفوز بمقعد نيابي بـ"الزائد" أو بـ"الناقص".