إنطلاقاً من الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي تعرفها البلاد، لا سيما مدينة طرابلس، ازدهرت في السنوات الماضية ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر، الأمر الذي كانت تُطرح حوله الكثير من علامات الإستفهام من دون أن تملك أي جهة أجوبة واضحة، لكن مع الكارثة التي وقعت، ليل الأحد، إستفاق الجميع على هذه الظاهرة، مع العلم أنها ليست الحادثة الأولى من نوعها.
في هذا السياق، تكشف مصادر متابعة لهذا الملف، عبر "النشرة"، أن عمليات الهجرة غير الشرعية كانت قد تفاقمت منذ العام 2015، حيث كانت غالبية المهاجرين من الجنسية السورية، لكنها اشتدت على نحو كبير في العام 2017، بينما تمكن الجيش، في العام 2021، من توقيف 21 قارباً كان على متنها 707 أشخاص حاولوا الهروب.
وتلفت هذه المصادر إلى أن اللبنانيين كانوا، في السنوات الماضية، يختارون الإنتقال إلى تركيا عبر رحلات شرعية، سواء كانت عبر البحر أو عبر المطار، نظراً إلى أنهم لا يحتاجون إلى تأشيرة دخول، على أن ينتقلوا بعد ذلك إلى احدى الدول الأوروبية، لكن مع تشديد الإجراءات الأمنية في تركيا عاد هؤلاء إلى التفكير بالإنتقال بحراً بطريقة غير شرعية مباشرة إلى أوروبا، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الإقتصادية منذ العام 2019.
وفي حين توضح المصادر نفسها أن هذه الحادثة جاءت بعد نحو اسبوع من توقيف الجيش زورقاً في المياه الإقليمية عند نقطة العريضة، كان على متنه 20 شخصاً من الجنسية السورية، تشير إلى أن هذه الظاهرة كان من المتوقع أن تنشط في هذه الفترة، على إعتبار أن الظروف المناخية تكون مساعدة، وتؤكد على وجود طريقتين في التحضير لهذه المغامرة: الأولى من خلال التواصل مع أحد المهربين، أما الثانية فهي عبر تنظيم العملية من قبل مجموعة من الأشخاص الراغبين في دخولها.
في الحادثة التي وقعت ليل الأحد، قد تكون المفارقة تكمن في سرعة توجيه الإتهامات إلى المؤسسة العسكرية، إنطلاقاً من الشهادات التي كان قد أدلى بها بعض الناجين، أي قبل حصول أي تحقيق جدي فيما حصل، لمعرفة ما إذا كان ما يتحدثون عنه حقيقة أم لا، مع العلم أن بداية البحث ينبغي أن تكون من مكان آخر.
في هذا الإطار، السؤال الأساسي من المفترض أن يكون عن عدد الأشخاص الذين من الممكن أن يستوعبهم القارب، خصوصاً في ظل المعلومات المتضاربة حول عدد الركاب الفعلي، الأمر الذي توضحه المالكة السابقة له هلا تلج، في حديث لـ"النشرة"، حيث تشير إلى أن العدد الطبيعي هو 10 أشخاص، لكن في الحد الأقصى من الممكن أن يصل إلى 15 شخصاً، مع العلم أن المعلومات تتحدث عن أن عدد الذين كانوا على متنه، في ليلة الحادثة، يفوق 60 شخصاً. كما تؤكد تلج أن القارب مخصص للنزهات، حيث تلفت إلى أن سرعته ليست كبيرة، وتجزم بأنه لا يمكن أن يصل إلى قبرص، في حال كانت هي وجهة الأشخاص الذين كانوا على متنه.
ما تقدم، يقود إلى معادلة مهمة، هي أن الذين إختاروا هذه المغامرة لم يقوموا بالحسابات اللازمة لها، الأمر يعود على الأرجح إلى حالة اليأس التي لديهم من الأوضاع القائمة في لبنان، وهو ما تأكد من خلال ما أوضحه قائد القوات البحرية في الجيش العقيد هيثم ضناوي، خلال مؤتمر صحافي الأحد، حيث أكد أن "المركب الذي غرق صغير صنع في العام 1974 والحمولة المسموح بها هي 10 اشخاص فقط"، كما لم يكن هناك سترات إنقاذ ولا أطواق نجاة. بينما رد على الإتهامات التي وجهت إلى عناصر الجيش، بالتشديد على أنهم "حاولوا منع المركب من الانطلاق، لكنه كان أسرع منا"، مشيراً إلى أن "قائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه".
في هذا الإطار، تشدد مصادر متابعة على ضرورة المطالبة بتحقيق جديد حول ما حصل، قبل ليلة الحادثة وخلالها، لكنها تستبعد فرضية أن يكون عناصر الجيش قد سعوا إلى إغراق المركب، حيث ترجح فرضية أن يكون سائق القارب هو من سعى إلى الهروب، لكنه لم يكن، بسبب ضعف خبرته، يدرك حقيقة ما يقوم له، بينما إختلط الأمر على الركاب نتيجة الصدمة التي عاشوها، الأمر جعلهم من العاجزين عن فهم حقيقة الإصطدام الذي حصل، طارحة علامات إستفهام حول ما إذا كان الهدف من تحميل الجيش المسؤولية أمر آخر، يتعلق بالجريمة نفسها أو بأهداف أخرى ذات خلفيات أمنية أو سياسية.
وتلفت هذه المصادر إلى أن هذه المسألة تتأكد من خلال المبادرة إلى إنقاذهم، نظراً إلى أنه فيما لو كان هؤلاء العناصر يريدون إغراقهم فعلاً ما كانوا بادروا إلى تقديم المساعدة لهم في الأصل، وتشير إلى أنه لو كان القارب نجح في الهروب من الجيش، كانت الإتهامات نفسها ستوجه إلى المؤسسة العسكرية بالتقصير فيما لو وقعت الكارثة لأسباب أخرى، لا سيما أن هذه الفرضية كانت مرجّحة بسبب ظروف المغامرة، وتسأل: "هل المطلوب تجاهل هذه الظاهرة الخطيرة، بما تحمله من تداعيات كارثية، أم أن المطلوب هو معالجة أسبابها الفعلية"؟.
في المحصلة، هذه الظاهرة من المفترض، بدل إستخدامها ورقة للتحريض في الإستحقاقات الإنتخابية سواء كانت النيابية أو الرئاسية، أن تدفع الجميع إلى التفكير في الخطوات التي من الممكن القيام بها لمعالجة الأسباب التي تدفع المواطنين إلى هكذا مغامرات غير قانونية وغير شرعية، حيث المفارقة الحقيقية قد تكون بأن في دائرة طرابلس-المنية-الضنية هناك 11 لائحة لم تنجح، من خلال خطاباتها، في إقناع هؤلاء الضحايا بأمل البقاء في لبنان، بينما على الأرجح هناك مهرباً نجح بإقناعهم بالمخاطرة بحياتهم على أمل تحقيق "حلمهم" بحياة أفضل في دولة جديدة.