انتصر الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون على منافسته مارين لوبان، وبقي في الاليزيه لخمس سنوات جديدة. الخبر انتهى هنا، لكن مفاعيله لم تنته عند هذا الحد، فالمنافسة الشرسة لم تلق سلاحها، وهي قالت في خطاب قبول الهزيمة، ان المعركة بدأت الآن وتتمثل في التمثيل الحكومي من جهة، وفي التمثيل النيابي من جهة ثانية. صحيح ان ماكرون فاز في الانتخابات الرئاسية، وهو بلا شك يدين بذلك لتحرك خارجي لافت قام به، للتعويض عن الوضع الداخلي الذي لا يبدو مريحاً بالنسبة اليه. وعرف ماكرون كيفية الاستفادة من الوضع اللبناني، على غرار رؤساء سبقوه في الاليزيه وفي حصد مكاسب هذا الملف، كما انه عزز ايضاً مكانته الاوروبية بفعل الحرب التي اندلعت في اوكرانيا اخيراً، وسمحت له بالتحرك الناشط للتعامل معها، وظهر وكأنه بالفعل المتحدث الرسمي باسم القارة العجوز، وصلة الوصل بينها وبين الاميركيين وبين الروس ايضاً. يسجّل لماكرون قدرته على استعادة ماء الوجه بعد الصفعة التي تلقاها في لبنان بعد مجيئه شخصياً وتعهده برعاية نقلة نوعية سياسية-اقتصادية اعتقد انها ستنجح، ولكنه لملم عوامل الفشل وجمعها ليعمد بنجاح (مع بعض التنازلات والتسويات) الى تشكيل حكومة جديدة واقرار بعض الامور، والاهم الاصرار على اجراء الانتخابات النيباية في موعدها، واعادة العلاقة مع دول الخليج ولو في حدّها الادنى.
هذا على الجبهة اللبنانية، اما على الجبهة الاوكرانية، فكسب تأييد الاوروبيين لمعرفته كيفية تلبية مطالبهم من دون كسر الجرة مع روسيا في الوقت نفسه، وبالرغم من انه لم ينجح في مسعى الوساطة بين اوكرانيا وروسيا لوقف الحرب، الا انه نجح في المقابل في الابقاء على شعرة معاوية بين الاوروبيين والروس في ظل تصاعد حدة المواجهة الكلامية والمواقف الى حد غير مسبوق، مع المحافظة على القبول الاميركي بما يحصل.
ولكن ما يجب ان يثير قلق ماكرون، هو ما بعد النتائج الرئاسية، لان حصول لوبان على نسبة تفوق الـ42 في المئة من اصوات المقترعين، انما يدل على تنامي قوة منافسته، التي ستعتمد على التحالفات مع خصوم الرئيس كي تسبب له صداعاً أليماً على مدى خمس سنوات، ان في الحكومة او في مجلس النواب، وهو امر من المتوقع حصوله نظراً الى نسبة المقترعين من جهة، والى نسبة الممتنعين عن التصويت من جهة ثانية، والتي بلغت قرابة الـ30 في المئة. وفي حال نجحت لوبان ومن سيتحالف معها في اثارة حماس الممتنعين، فسيجد ماكرون نفسه امام مأزق حقيقي، وسيكون عليه تقديم تنازلات مهمة في كثير من المواضيع والا سيشهد تراجعاً كبيراً لشعبيته ونفوذه وقدرته على قيادة البلاد.
وللعلم فقط، فإن لوبان دخلت ايضاً على ورقتي لبنان واوكرانيا، وهي ستعمد بالتأكيد الى الاستفادة منهما، غير انه يجب عليها ان تتعلم من اخطائها في هذا المجال، لاستقطاب اللبنانيين والعرب بشكل عام، كما الاوروبيين الذين لم يخفوا قلقهم من طروحاتها وخصوصاً حول الموقف من روسيا وحلف شمال الاطلسي، وربما لو عرفت كيفية تحسين هذه النقطة، لكان لفرنسا اول رئيسة للجمهورية في تاريخها. صحيح ان طروحات لوبان تعتبر "ثورية"، ولكنها نجحت في جذب عدد لا يستهان به من الفرنسيين، وتبقى المعركة مفتوحة مع ماكرون في سبيل الانتصار في الاستحقاقات المقبلة، وقد تكون هذه هي الفرصة الذهبية للوصول الى هذه الغاية، والا سيترتب على الانتظار العديد من السنوات المقبلة لنيل فرصة اخرى بالاهمية نفسها وبالزخم نفسه، ولا يجب الاستخفاف بقدرات ماكرون الكلامية وحنكته في الاقناع وخصوصاً بالنسبة الى اخصامه حيث سيعمد الى التقرب منهم لمنع لوبان من تشكيل تحالف يهدد نفوذه.