من خصائص هذا البلد أن يعيش شعبه أعياده معًا. فما كاد المسلمون يهنئون المسيحيين بعيد الفصح، حتى بادر المسيحيون إلى تهنئة المسلمين بالفطر. وتتلاقى الأعياد في وطن يُعدّ من أصغر المساحات في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذه ميزة لم نعرف قيمتها، للأسف.
لا أعرف إن كنّا في نعمة أم نقمة، لم استطع تفسير خصوصيّة هذا البلد. حتى الآن لم يتجرأ واحدٌ منّا أن يضع اصبعه على الجرح الحقيقي. فالمودّات على الصعيد الشخصي، بين كافة أطياف المجتمع اللبناني وطوائفه، كثيرة ولطيفة وممتازة. وهذا ما نلمسه لمس اليد في الأعياد والمناسبات، وفي الواجبات الإجتماعية. لكن، عند أيّ منعطف طائفي تتحرك الغرائز ويزداد البلبال بين الشعب، إلا لدى قلّة قليلة.
ترى جميع اللبنانيّين يتهاتفون ويلتقون ويتبادلون التحيّات والكلام الطيّب، وما أن تقع الواقعة، حتى يتحوّل الإعتدال والإنفتاح والتلاقي، إلى مواجهة وتعصّب وتقوقع وانغلاق.
يبدو أن هذه "الموزاييك" اللبنانيّة لم تُبنَ على أسس سليمة ومتينة. والمحرّك لهذه الغرائز واحد: الطائفية المُستغلّة من الزعماء، والمعشّشة في النفوس والنصوص، ويتلطّى خلفها الفاسدون، كي لا يخضعوا للمحاسبة.
المضحك المبكي هو ما تشهده الساحة اللبنانية، عشيّة الإنتخابات النيابيّة، من شدّ للعصب الطائفي، لكي يحافظ كلّ واحد على زعامته. ولتحقيق أهدافهم يستغلّون الدينَ خدمة لمصالحهم الخاصّة والضيّقة. للأسف بعض حتى الذين يدّعون التغيير، أطلقوا شعارات طنّانة، وانغمسوا بطريقة أو أخرى بدهاليز الطوائف، مصوّبين سهامهم على رؤساء الأحزاب والتيّارات من باب تمثيلهم لطوائفهم، وهم أنفسهم ركّبوا لوائح مشتركة من النسيج الطائفي، تماشيًا مع القانون، ولم يتخطّوا هذه المعضلة، وفي داخل كلّ نفس توقٌ لإلغاء الآخر ضمنًا، "ويا رب نفسي".
ألم يفهم الناس أننا في هذا البلد، كلّما صوّبنا على زعيم طائفة، حتى من باب الفساد ومن زاوية عدم الإنتاج، يعملون عل شدّ العصبيّة الطائفية تجاهه وحمايته؟ في الوقت عينه ترى كلّ "الزعماء" ينادون بالتعايش والعيش الواحد، ويعايدون بعضهم بعضًا، كما رأينا من الفصح إلى الفطر، بأسمى آيات التبريكات، وفي المقابل يشدّون العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة، للبقاء في مواقعهم. في كلّ هذه المعمعة الضحيةُ واحدةٌ: اللبناني. على قول المثل: لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير.
فعلًا لم أستطع أن أفهم تركيبة "وطن النجوم" الذي بات شعبه في الحضيض، وتخطّينا جهنم بحدود، والكلّ يرمي الكرة في ملعب الآخر، ولا من ضوابط أو حدود للكلام وتراشق الإتهامات والإهانات، بغية الحصول على مقعد نيابي، يشتهيه كلّ التائقين إليه، لما له وعنده من منافع وامتيازات ماديّة ومعنويّة، دون أن يتضمن برنامجًا إنتخابيًّا واحدًا، للحدّ من هذه التنفيعات التي يتوارثها الأولاد والأحفاد، على مثال كثر دخلوا الندوة البرلمانية.
كيف بإمكاننا أن نقنع شخصًا من طائفة معيّنة، أن يعطي صوته التفضيلي لمرشّح من غير طائفته؟ قلّة قليلة ستتعامل مع هذا الإستحقاق خارج الفكر الطائفي، حتى عند اللوائح التغيريّة والأحزاب العقائديّة. والتمييز ليس فقط في الدوائر المختلطة بين المسلمين والمسيحيين والموحّدين، إنّما حتى بين المسيحيين أنفسهم، ما بين ماروني وأرثوذكسي وأرمني... وكذلك الأمر بين المسلمين أنفسهم، ما بين سنّة وشيعة وموحّدين وعلويين...
نحن في بلد لسنا بمؤمنين إنما نحن بطائفيّين، بكل ما للكلمة من معنى! فالإنحياز للأشخاص يتخطّى الطائفة إلى حدود المذهب. لذلك لا أمل بالتغيير إلا بدستور يراعي كل هذه التجربة المرّة. فالطائف، للأسف، لم يُطبّق وبحاجة إلى قراءة نقديّة وتعديلات جوهرية. أما الوصايات الخارجية موزّعة على الطوائف، حتى ضمن الطائفة الواحدة! وما من مرجع نعود إليه لتفسير الدستور! وما من حَكم يملك صلاحيات بكل ما للكلمة من معنى! فما الحلّ؟ الله أعلم! كل ما أعلمه، اختصره جبران خليل جبران بالقول: "ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين". فلو كنّا نعيش إيماننا بعمق لما وصلنا إلى هذا الدَرك من التصرّف. فالأديان تنادي بالمحبة والسلام والأخوّة والتعاون، أمّا نحن فنمشي عكس المشيئة الإلهية. فيا ليت الفصح والفطر يطولان لكي ننعم بالمودّات، ولا نعيش الجلجلة والأضحى طوال السنة.