تعصف بالعالم منذ بداية القرن الواحد والعشرين تحوّلات جيوسياسية وجيوأمنية وجيواقتصادية، وأحداث مفصلية بقيت تداعياتها إلى يومنا هذا وأبرز عناوينها التنافس على القوّة والقطبية العالمية على صعيد النّظام الدولي.
كما أنّ نطاق تسلسل الأحداث، وتطور الوضع السياسي والأمني والاقتصادي العالمي وتغيراته المستمرة على المستوى الأوروبي، وما يحدث في بيئتها الإقليمية أو مناطق نفوذها في الأقاليم الاستعمارية السابقة في إفريقيا، أدخلت العديد من الدول في مجال التنافس العالمي، خصوصاً روسيا والصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإلى حدٍّ ما فرنسا، لذا يتبلور أمامنا ستّة أقطاب محتملة على صعيد النّظام الدولي.
يقوم التوازن الدولي بين الغرب والشرق على أساس التحالفات الاستراتيجية بين الدول ذات النفوذ الدولي والإقليمي. وقد أدّت حقيقة بروز هذه التحالفات اﻵن إلى الواجهة إلى إغراق المجتمع الدولي في أزمات وانقسامات يمكن أنّ تغيّر مسار العلاقات الدولية التاريخية.
ونتيجة لذلك قد تصعد إلى الواجهة الانقسامات الأيديولوجية بين الشعوب، وما يستتبع ذلك من سياق تصادميّ لا يمكن التنبؤ به. وتظلّ الطاقة أولوية للدول التي تهدف إلى التأثير على نطاق عالمي، فهي من أكثر القضايا التي تهدّد الاستقرار العالمي، وبالتالي أمن وتنمية وسلام الشعوب.
إنّ العلاقات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية هي انعكاس مباشر لمخططاتها المسبقة، وما تقوم به في مساندة أوكرانيا بوجه روسيا، ووقائع هذه السياسات لا تشير إلى رغبة الإدارات الأمريكية المتعاقبة الانكفاء وعدم التدخل في شؤون الدول خصوصاً النفطية منها. حيث إنّ أقوى اقتصاد بالعالم بحاجة إلى أسواق تصدّر إليه السلع، وإلى موارد طبيعية رخيصة.
ما يتحكّم بهذه السياسات هي معادلة القطبية الواحدة وتحقيق أقصى قدر ممكن من مصالحها، وبالتالي المحافظة على موقع قيادة العالم دون وجود منافس. ولتحقيق هذه الاستراتيجية لا بدّ من وجود سيطرة على البقع الجغرافية الغنية بالموارد الطبيعية، وهذا ما يبرز الحاجة إلى التعامل مع دول خارجة عنّ النفوذ الأمريكي.
لذا يكون الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية مترامي الأطراف وعابر لحدود الدول، الأمر الّذي يعزّز استراتيجيتها في إيجاد أنظمة سياسية تحكم مركزياً من واشنطن. حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية عند تأسيسها في مرحلة عزلة (1776- 1911) وفي هذه المرحلة قامت ببناء أمنها العسكري والاقتصادي والسياسي.
لا يزال العالم يشهد حالة غموض واسعة تلف مواقف العديد من الدول فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، حيث إنّ التحولات المفصلية، على عدد من الصعد ومنها السياسية والأمنية والاقتصادية تدفعها إلى إبقاء مواقفها في المنطقة الرمادية تحسباً لأي قرار قد يؤثّر عليها في المستقبل.
ولعلّ أبرزها الحرب الأوكرانية- الروسية التي لها بعد إقليمي ودولي {وقد سبقها الحرب الجورجية الروسية}، لما لها من تأثير على موقف الدول، وفي 24 شباط من عام 2022، أعلن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" الحرب على أوكرانيا وفقاً لمعطيات عن وجود تهديد للأمن القومي الروسي.
خصوصاً أنّ "مذكّرة بودابست للضمانات الأمنية" والتي جرى توقيعها عام 1994، بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبموجبها تعهّدت روسيا باحترام حدود أوكرانيا على أنّ يقابل ذلك تخلّي كييف عن ترسانتها النووية (سوفياتية المنشأ) لصالح روسيا الاتحادية، إلا أنّ التحوّلات التي حدثت فيما بعد، خصوصاً مع الثورة البرتقالية في عام 2004 ومواجهات أوروميدان في شباط 2014، وما حدث من بعدها من تحولات على صعيد السياسات المعتمدة من قبل السلطة الحاكمة وعلى وجه الخصوص مع الرئيس "فولوديمير زيلنسكي" ومساعيه من أجل الانضمام إلى حلف الناتو وحقّه {وفقاً لتعبيره} في التحول إلى دولة نووية.
إنّ شخصية الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لا توحي بالجبن أو بالخوف حيث إنّه سيعمد إلى استعمال شتّى الوسائل من أجل المحافظة على حدود روسيا الاتحادية وأمنها القومي، خصوصاً أنّ سياسات هذه الشخصية لا تقوم بالانتقال إلى خطوة ما دون أنّ تستنفد كافّة وسائل الخطوة التي تسبقها، وخير دليل ما جرى قبل التدخل العسكري في أوكرانيا 2022، فالمتابع لخطابات الرئيس "بوتين" يظهر له المسار التصاعدي لمطالبه وتحذيراته وصولاً إلى إعلان الحرب على أوكرانيا، وهناك العديد من الوقائع التي استند إليها ومنها الدستور الأوكراني الّذي لا يسمح بإنشاء أيّ قواعد عسكرية، إضافةً إلى الوثيقة الاستراتيجية العسكرية التي اعتمدت في أوكرانيا في آذار 2021، وقد كانت أعدّت للمواجهة مع روسيا.
فالتحولات السياسية العالمية بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من قبل دول حلف الناتو الداعمة للسلطة السياسية في أوكرانيا، والتوترات السياسية حول المصالح المشتركة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، تنذر بأزمات لا يمكن حلّها على المدى القريب.
وجدت حسابات جيوبوليتيكية وضعت أوكرانيا بمصاف الدول المهدّدة للأمن القومي الروسي خصوصاً بعد مساعي حلف الناتو إلى ضمها. ولا تخف انعكاسات هذه الحرب (الروسية-الأوكرانية) والتحولات على إضعاف الاستقرار الجيوسياسي- الجيوأمني والجيواقتصادي العالمي، خصوصاً وأنّ الدول التي تفصل حدود روسيا عن حلف الناتو هي بيلاروسيا وأوكرانيا.
وأمام هذا الواقع، تتشكّل تكتلات سياسية إقليمية ودولية قد يظهر تأثيرها المباشر وغير المباشر على منطقة الشرق الأوسط، إضافةً إلى أزمة الطاقة العالمية وما تفرزه من استراتيجيات وتوازنات جديدة قد تساهم في إزدياد الدور الصيني في منطقتنا. إلاّ أنّ أولويات الصين الاستراتيجية قد تتغير لتحقيق مكاسب جيوسياسية.
لدور الصين أبعاد وأهداف سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية، وكذلك تأثير قراراتها على العلاقات الدولية. خاصّةً وأنّ الدول الغربية تتنافس فيما بينها جيوستراتيجياً على البلدان الغنيّة بمصادر الطاقة خاصةً في إفريقيا (الصراع الفرنسي- الأمريكي على الجزائر)، أو حتى مشروع مدّ خطوط أنابيب الغاز من نيجيريا إلى أوروبا، فإستراتجية هذا المشروع زادت أهميته في ظلّ أزمة الطاقة مع روسيا وموضوع العقوبات الغربية عليها.
مع كلّ ما ذكر، تزداد أهميّة منطقة الشرق الأوسط والثروات النفطية التي تشكّل أبرز الأسباب المؤثّرة على العلاقات الدولية. روسيا لا ترغب في رفع إنتاج النفط، وأوروبا والولايات المتحدة مصلحتهم في رفع مستوى الإنتاج النفطي خصوصاً من دول الشرق الأوسط، هذا ما يضع هذه الدول في أزمة عدم توتير العلاقات بين المحورين.
وأما بالنسبة للبنان فإنّ الانتخابات النيابية تتراوح ما بين الإرادة الشعبية والضغوط الخارجية بكافة أشكالها، إلا أنّ إعادة انتخاب الرئيس "ماكرون" لولاية جديدة في سدّة الرئاسة الفرنسية، يبقي لبنان في سلّم أولويات الرئاسة الفرنسية، وبالتالي استمرار الدفع باتجاه حلول قد تضع لبنان في طريق الخروج من أزمته. وبالنسبة لسلاح المقاومة، فإنّ العديد من الحروب التي جرت خصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، أثبتت ضعف مؤسسات المجتمع الدولي وقانونه في منع الاعتداء على دول ذات سيادة، وهذا ما يضع سلاح المقاومة في مقدّمة السياسات الاستراتيجية التي تردع العدو الإسرائيلي، خصوصاً بعد اكتشاف الثروة الغازية.
فالعالم أنهك من ثلاثة أزمات: وهي الأزمة الاقتصادية، إضافةً إلى جائحة كورونا وما نتج عنهما من تضخم، إضافةً إلى الأزمة الثالثة وهي التي نتجت عن حرب روسيا-أوكرانيا مسألة الأمن الغذائي العالمي وتهديد أمن الطاقة.
ومع تلاشي الحدود الفاصلة بين علاقات دول الشرق الأوسط مع كلّ من روسيا والصين هذا من جهة، ومن جهة ثانية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، تظهر الحاجة إلى آلية تسمح لهذه الدول بالبقاء في منطقة وسط فيما يتعلق بإنتاج النفط، وبالتالي المحافظة على امدادات الطاقة والعمل على إيجاد موردين جدد.
فالأزمة العالمية التي بدأت عام 2008، وبعدها أزمة كورونا أنهكت الدول وخصوصاً الأوروبية التي تصارع بين بقاء تأثيرها الدولي أو التوجّه نحو الداخل والاهتمام بحاجات شعوبها، الأمر الّذي يدفعها إلى زيادة الاهتمام بالتأثير الجيوسياسي على الدول النامية، نظراً لما تمثّله من مكان تتمركز به استثمارات شركاتها، وباعتبارها سوقا استهلاكية للسلع الأوروبية.
يبقى هناك ثلاثة ملفات تؤثّر في العلاقات الدولية، الملف الأوّل تدهور العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسية، وكان من نتائج ذلك الحرب في أوكرانيا ومحاولة حلف الناتو في حصر روسيا داخل حدودها السياسية، مع ما ذكره الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بعيد النّصر الذي جرى في 9 أيار 2022، وقد قال أن: "حلف الناتو كان يتحضر لغزو الأراضي الروسية".
وأمّا الملف الثاني يكمن في إستراتيجيات السياسة الصينية اتجاه دول الشرق الأوسط وأفريقيا، وما ينتج عن ذلك من ضرب للقطبية الواحدة على الصعيد الدولي. وبالنسبة للملف الثالث هو الملف النووي الإيراني، وتأثيرات إيران في إقليم الشرق الأوسط أو حتى في مناطق أخرى من العالم، حيث أصبحت الحاجة إلى إيران بعد الحرب الروسية-الأوكرانية أكثر ما قبلها على الصعيد الدولي، هذا ما يوضح الخطأ الاستراتيجي الذي إرتكبته إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة "دونالد ترامب" عبر الانسحاب من الاتفاق من طرف واحد. هذه الاتجاهات تعدّ من العوامل الرئيسية الّتي تضع العلاقات الدولية ضمن تحولات انقسامية.
نافلة القول، ما يترك إرتياح هو أنّ الرئيس الفرنسي "ماكرون" قال: "إنّه من أجل إنهاء الحرب يجب بناء السلام من دون إذلال روسيا"، ويعيدنا هذا الأمر إلى العام 2008 وقمّة الناتو حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية قرار القاضي بعضوية أوكرانيا وجورجيا بالحلف الأطلسي. بالتالي يبقى أنّ الولايات المتحدة هل ستنصت إلى حلفائها بهذا الخصوص؟ طالما أنّ هناك تنافساً على المناطق الغنية بالنفط والموارد الطبيعية بين أعضاء حلف الناتو، وبعد إقرار مجلس النواب الأمريكي لتشريع يعود لعام 1941، ويعرف بإسم قانون الإعارة والتأجير، وتوقيع الرئيس "بايدن" عليه بهدف تسريع عملية تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا.