"لا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين"(البقرة 190)؛ "ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة"(النّحل 93). ويقول أيضًا، عزّ وجلّ، في القرآن الكريم: "لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ... والله سميع عليم"(البقرة 256)؛ و"إنّا أنزلناه عربيًّا لعلّكم تعقلون"(يوسف 2).
بعد تأمّلي في هذه الآيات، وهي كثيرة، أيقنت أنّ التّراث الإسلاميّ غنيّ بالتّسامح والرّحمة. ويفسّر الطّبري الإسلام، في الآية القائلة "إنّ الدّين عند الله الإسلام" بأنّه من الفعل "أسلم" أي دخل في السّلم، أو بمعنى آخر، من آمن بالله فاستسلم لمشيئته وسلّمه ذاته، كما فعل النّبيّ ابراهيم "إذ قال ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين"(البقرة 130). إلّا أنّ بعض العامّة يعتبرون أنّ الإسلام هو من أسلم بقوّة السّيف، أو مورس عليه إرهاب ما للاستسلام فاستسلم! فيا أيّها المسلمون، أيّ نوع تريدون أن تعرّفوا به دينكم؟.
ما كنت بوارد الرّدّ على شيخ أعلن بالأمس القريب كفر النّساء المسيحيّات في طريقة عيشهنّ وتصرّفهنّ في لبنان. ولقد فاته أنّه بكلامه هذا لا يتعرّض للمرأة المسيحيّة وحسب، وإنّما يهين المرأة المسلمة، وينتهك حرّيّتها. وإنّي على يقين من أنّ موضوع التّكفير قد فهم خطأ في زماننا. فقد جاء في الحديث النّبويّ الشّريف: "من كفّر مسلمًا فقد كفر". فإذا كان ابراهيم مسلمًا في القرآن الكريم، وابراهيم هو أبو المؤمنين جميعًا، فهذا يعني أنّه لا يجوز على أيّ إنسان أن يكفّر أخاه الإنسان؛ أي أنّ من كفّر أحدًا يكون هو الكافر بعينه، لأنّه بذلك ينتحل صفة الألوهة، وينصّب نفسه ديّانًا على الآخرين، وهذا ما رفضه السّيد المسيح، في تعاليمه، رفضًا قاطعًا: "لا تدينوا لكي لا تدانوا. فكما تدينون تدانون، وبما تكيلون يكال لكم. لماذا تنظر إلى القشّة في عين أخيك، ولا تبالي بالخشبة في عينك؟ بل كيف تقول لأخيك دعني أخرج القشّة من عينك، وها هي الخشبة في عينك أنت؟ يا مرائي أخرج الخشبة من عينك أوّلًا، حتّى تبصر جيّدًا فتخرج القشّة من عين أخيك"(متّى 7: 5).
وسأبرّر من جديد لماذا أكتب؛ لأنّي قرأت لمن لا يقرأ باسم ربّه، وهو شيخ آخر يحرّم على المسلمين الرّحمة على شهيدة الواجب، عروسة فلسطين شيرين أبو عاقلة. وهذا الأمر ينافي مبدأ الرّحمة والمحبّة اللّتين يدعو إليهما الدّين الإسلاميّ، وبهما حارب هذا الدّين المعتقدات الجاهليّة والوثنيّة، ودعا إلى الأخوّة، والإنسانيّة. وأحبّ أن أسأل هذا الشّيخ: إذا مررت بفقير، أو يتيم ومعوز، أو مريض، أو جريح، ألا تتحرّك الإنسانيّة والنّخوة الكامنتان فيك لمساعدته؟ أو لعلّك تسائله عن دينه وطائفته قبل أن تمدّ له يد العون! وإلّا فأيّ نوع من البشر نكون؟ أنجسّد بتصرّفنا هذا ما دعا إليه الرّسل والأنبياء؟ فلنتحلَّ بصفاتهم، ولنتأمّل عميقًا في الكتب المقدّسة، ولنستقِ الرّحمة من أرحم الرّاحمين، "فذكّر إن نفعت الذّكرى"(الأعلى 9): "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثمّ رددناه أسفل سافلين، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون، فما يكذّبك بعد بالدّين، أليس الله بأحكم الحاكمين"(التّين 4-8).
الحمد لله ربّ العالمين الّذي حوّل مشهد الحزن والألم والموت إلى مشهديّة قيامة تجلّت بحياة شيرين كما بموتها. صدق الفيلسوف الفرنسيّ بسكال بقوله: "أؤمن بقضيّة يستشهد من أجلها صاحبها"؛ قضيّة الإنسان! لقد انتصرت شيرين على عدوّها وعلى كلّ أعداء الإنسانيّة. العالم كلّه، من مسيحيّين ومسلمين، شيّعها بالدّموع، والصّلاة، والشّموع، وشارك في صلاة المرافقة رجال دين من مختلف الأديان، فقرأوا الفاتحة، وصرخوا أبانا الّذي في السّماوات، على روحها الطّاهرة.
فوا أسفاه!لقد نجح العدوّ الصّهيونيّ بتحويل المشهد من معتدٍ إلى متفرّج، بينما نحن نغرق في تخبّطنا متناسين الهدف الأسمى، ومتلهّين بالقشور.
وأجد ضروريًّا أن أذكّر الشّيخين بمضامين الوثيقة الإنسانيّة الّتي وقّع عليها المرجعان الدّينيّان، البابا فرنسيس والشّيخ أحمد الطّيّب، وبلقاء البابا مع المرجع الشّيعيّ الأعلى الشّيخ السّيستاني، في العراق؛ وبأنّ الاتّهامات الّتي أطلقاها في خطابهما تنافي ما دعت إليه هذه الاتّفاقيّات. فهل يتّعظ صغار النّفوس من هامات عصرنا، أم نعود إلى حرب الآلهة في الإنسان، أم نتّقي الله بما نحن فاعلون؟ والسّلام.