من استمع إلى خطابات قادة "حزب الله" بعد الكشف عن نتائج الانتخابات النيابية الأسبوع الماضي، وعلى رأسهم أمينه العام السيد حسن نصر الله، لاحظ فارقًا جوهريًا في اللهجة أولاً، مع تلك التي اعتُمِدت في الأسبوع "الانتخابي" الأخير، خصوصًا في مواجهة من بات يصطلح على وصفهم اليوم بـ"نواب التغيير"، الذين أفرزهم المجتمع المدني.
فحين وصلت الحملات الانتخابية إلى "ذروتها"، لم يتوانَ "حزب الله" عبر أمينه العام تحديدًا على "التصويب" بقوة على مرشحي "التغيير"، تارةً بوصفهم مدفوعين من سفارات أجنبية تدعمهم وتموّلهم، وطورًا باعتبار المعركة معهم بمثابة "حرب تموز سياسية"، لا بدّ من إظهار فعل "المقاومة السياسية" فيها، منعًا لإسقاط "المقاومة العسكرية".
ولم يَغِب هذا "النَفَس" بشكل أو بآخر عن أول تصريحات "الحزب" بعد الانتخابات، حين دعا رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد من أسماهم بـ"الخصوم السياسيين"، إلى "الانتباه لخطابهم وسلوكهم السياسي"، متوجّهًا إليهم بالقول: "نرتضيكم خصومًا لنا في المجلس النيابي، لكن لن نقبل بكم دروعًا لإسرائيل ولمن وراءها"، على حدّ وصفه.
إلا أنّ هذا الجو سرعان ما بدّد السيد نصر الله بخطاب ما بعد الانتخابات، حين أبدى كلّ "الانفتاح" على الوجوه الجديدة، لافتًا إلى أنّ أحدًا لا يستطيع الادّعاء أنّه يملك الأكثرية، وأنّ المطلوب التعاون من الجميع، مع تأجيل النقاش بالسلاح لصالح الأمور المعيشية الملحّة، فما "سرّ" هذا الانفتاح المستجدّ؟ وهل من "رهانات" لدى "الحزب" على نواب "التغيير"؟
يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ الأخير يتعامل بـ"واقعيّة" مع الأمور والتطورات، مشيرين إلى أنّ "الطبيعي" هو أن يختلف خطابه اليوم، بعد انتهاء الانتخابات، عن خطابه في "أوج" الحملات الانتخابية، باعتبار أنّ لكلّ مرحلة خطابها، وهو ما يدركه القاصي والداني، وبالتالي فإنّ رفع سقف الخطاب في سبيل الحشد والتعبئة قبيل الاقتراع هو من "بديهيات السياسة"، لكن ما بعد إقفال صناديق الاقتراع، ينبغي الانتقال إلى مرحلة مختلفة.
ويشير هؤلاء إلى أنّ مشكلة "حزب الله" لم تكن يومًا مع قوى "التغيير" بحدّ ذاتها، بل مع بعض وجوهها ممّن يذهبون بعيدًا في التحدّي والاستفزاز، معتقدين أنّهم بهذه الطريقة "يجتذبون" الجمهور، تمامًا كما فعل أحد المرشحين مثلاً الذين تناولهم السيد نصر الله في خطاب ما قبل الانتخابات، مطلقًا عليه وصف "الأجدب"، لأنّ الأخير استخدم الدين في سبيل إظهار نفسه "متحرّرًا"، وهو ما "انقلب" عليه، بدليل نسبة الأصوات التفضيلية التي حصدها.
أكثر من ذلك، يقول المقرّبون من "حزب الله" إنّه، خلافًا لكلّ الاجتهادات والتفسيرات، فإنّ قوى "التغيير" لم تكن هي المقصودة بخطاب "الحزب" الانتخابي، خصوصًا بحديثه عن "حرب تموز سياسية"، وعن "مؤامرات" تحاك ضدّ المقاومة وسلاحها، ولو أنّ جمهور "حزب الله" قبل خصومه أسهم في تعزيز هذا الاعتقاد، حين حوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى "منصّات" للهجوم على بعض المرشحين الجُدُد، والسخرية منهم.
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ معركة "الحزب" الفعلية والجوهرية كانت مع "القوات اللبنانية" تحديدًا، لا مع قوى "التغيير"، وقد كان ذلك واضحًا حين أعلن السيد نصر الله مثلاً أنّ الحزب سيخوض "معركة حلفائه"، في إشارة فهم القاصي والداني أنّها تعني "التيار الوطني الحر"، كما كان أكثر وضوحًا في "معركة" بعلبك الهرمل، حيث استهدف "الحزب" لائحة "القوات" ومرشحها أنطوان حبشي، ولو أنّ الأخير استطاع بلوغ الحاصل رغم كلّ شيء.
صحيح أنّ "الحملات" استهدفت "التغييريين" مع الآخرين، وقد تعرّض بعضهم لـ"التخوين"، الذي شمل في بعض الأحيان "حلفاء تاريخيين" للمقاومة، كالنائب السابق أسامة سعد، الذي لم "يرحمه" جمهور الحزب، ولو نأت القيادة بنفسها عنه، إلا أنّ "النقاش" أصبح اليوم في مكان مغاير كليًا، وفق ما يقول المحسوبون على "الحزب"، الذي يشيرون إلى أنّه كان مثلاً أول "مهنئي" سعد وشريكه عبد الرحمن البزري بالفوز.
يرى المقرّبون من "حزب الله" أنّ المحكّ الأساسيّ اليوم يبقى في الأداء، مشيرين إلى أنّ الأنظار ستكون مشدودة في الأيام المقبلة نحو طريقة تعاطي قوى "التغيير" مع الاستحقاقات الداهمة، فإما تؤكد "موضوعيتها وحيادها"، ووقوفها على مسافة واحدة ممّن تصفهم بـ"رموز المنظومة"، وتستحقّ بالتالي مكانة "الخصم الشريف"، وإما تعلن "التحاقها" بالمحور الآخر، ما سيؤدّي إلى تعامل من نوع آخر معها، بعد أن يكون "القناع قد سقط".
ولعلّ أول "الاستحقاقات" سيكون انتخابات رئاسة مجلس النواب وتكليف شخصية لتشكيل الحكومة، حيث سيكون لموقف نواب "التغيير" وقعه، وفق ما يرى العارفون بأدبيّات "حزب الله". فمع أنّ هؤلاء يدركون أنّ النواب الجُدُد لن يسمّوا رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولو كان "المرشح الوحيد" للمنصب، فإنّ طريقة مقاربتهم للاستحقاق ستشّل محكًا جوهريًا، خصوصًا لجهة مدى "التقاطع" مع قوى أخرى، وعلى رأسها "القوات اللبنانية".
يرى البعض أنّ الانفتاح الذي أظهره "حزب الله" لوجوه "التغيير" ليس سوى "هدوء ما قبل العاصفة"، لأنّ كلّ الأجواء توحي بأنّ "الانفجار" في العلاقة قادم عاجلاً أم آجلاً، فيما يرى البعض الآخر أنه مجرد محاولة لـ"ترطيب الأجواء"، مع قوى قد يكون "الأخذ والردّ" معه سهلاً وغير معقّد. وإذا كان "التغييريون" موضوعين مجدّدًا أمام "الامتحان"، فإنّ "الامتحان الأكبر" يبقى على عاتق منظومة، لا تزال تبحث عن "المصالح" في عزّ "الانهيارات"!.