لا يكاد القطاع الطبي اللبناني يخرج من أزمة حتى يقع في أخرى، نتيجة الانهيار المالي الذي تعاني منه البلاد وشح السيولة. فبعد رفع الصوت للتصدي للنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، أعلنت نقابتا أطباء لبنان في بيروت والشمال ونقابة أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان الإضراب العام والتوقف التام عن العمل يومي الخميس والجمعة المقبلين في العيادات والمراكز الصحية والمستشفيات باستثناء الحالات الطارئة، وذلك "رفضاً لسياسات مصرف لبنان المركزي وجمعية أصحاب المصارف بحق المودعين عامة والأطباء وعاملي القطاع الصحي والمستشفيات".
ويشهد هذا القطاع، الذي لطالما احتل على مر السنوات المراكز الأولى في منطقة الشرق الأوسط، أزمات شتى أدت إلى هجرة آلاف الأطباء والممرضين وإقفال عدد كبير من الصيدليات وسط تحذيرات جدية من إقفال عدد من المستشفيات التي "لم تعد قادرة على تأمين مصاريفها ورواتب موظفيها".
سليمان هارون
ويرد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون الإضراب إلى "سياسات وإجراءات المصارف التي لا تسمح للمستشفيات بالحصول على أموالها نقداً في وقت يُجبر فيه أصحابها على تأمين الأموال نقداً لتأمين الأدوية والمستلزمات الطبية والمازوت وكل المشتريات الأخرى، إضافة للأجور التي تمتنع المصارف عن تحويلها مشترطة تأمينها نقداً من قبلنا، ما يجعل كل حساباتنا التي في البنوك سواء تلك بالليرة أو بالدولار من دون قيمة تذكر".
واشار هارون في تصريح لـ"الشرق الأوسط" إلى أنه "ورغم إلزام المريض بدفع جزء من فاتورته نقداً، فإنها لا تشكل أكثر من 25 في المائة من مصاريف المستشفى، في وقت تسدد فيه وزارة الصحة والضمان والطبابة العسكرية وغيرها فواتيرها عبر حوالات مصرفية لا نتمكن من الاستفادة منها"، موضحاً أن "المستشفيات ترزح تحت هذه الأزمة منذ ما يزيد على 4 أشهر وقد راجعنا المصارف والمصرف المركزي اللذين يتقاذفان كرة المسؤولية، أما وزير الصحة ورئيس الحكومة فتدخلا من دون أن نصل إلى أي نتيجة".
ونبه هارون إلى أن "استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بإغلاق عدد كبير من المستشفيات، خصوصاً أنه وبعد رفع الدعم ارتفعت أسعار بعض الأدوية 10 مرات كما أصبحت التكلفة اليومية للمازوت على كل مريض نحو 40 دولاراً"، لافتاً إلى أن "تكلفة الاستشفاء باتت غير منطقية وهو ما سيؤدي لموت الناس في بيوتهم، علماً بأن نسبة دخول المستشفيات تراجعت 50 في المائة وبتنا نستقبل حالات صعبة جداً، ما يؤكد أن المريض لا يذهب إلى المستشفى إلا بعد أن تسوء حالته كثيراً".
ولا شك أن ما تشكو منه المستشفيات ينعكس مباشرة على العاملين فيها وعلى رأسهم الأطباء.
شرف ابو شرف
وتحدث نقيب الأطباء شرف أبو شرف عن "مشاكل كبيرة يعانون منها مع المصارف نتيجة التجاوزات وعدم احترام القوانين وأصول العمل المصرفي ما دفع نحو 3000 طبيب لمغادرة البلاد وعدد مماثل من الممرضات والممرضين ما ينعكس على الأداء في هذا القطاع"، لافتاً إلى أن "آخر القرارات المصرفية الجائرة لحظة رفض الشيكات أو في حال قبولها تم فرض عمولات خيالية قاربت الـ40 في المائة علماً بأن قيمة الشيك بالدولار باتت لا تساوي شيئاً".
واشار أبو شرف في تصريح لـ"الشرق الأوسط" إلى أن "بعض المصارف باتت تغلق حسابات مصرفية كما ترفض فتح حسابات جديدة، أضف أننا بتنا غير قادرين على استخدام البطاقات المصرفية وهذه كلها إجراءات تصعب عملنا وتدفع المزيد من الأطباء للهجرة".
وأضاف: "تواصلنا مع كل المعنيين لكننا لم نصل إلى أي نتيجة علماً بأننا نعي أن ما نعاني منه يعاني منه أيضاً كل المودعين وبالتحديد الطريقة غير الأخلاقية وغير الإنسانية والقانونية في التعاطي معنا... لم نكن يوماً نود اللجوء إلى الشارع لكن المذلة التي بتنا نشهدها في المصارف غير مسبوقة وتدفعنا مجبرين إليه للمطالبة بحقوقنا وحقوق كل المودعين".
الأزمة تتفاعل
وسط هذه الأجواء المتشنجة، ينحى المشهد الداخلي في اتجاه منحدر خطير، مع تفاقم الازمة على كل المستويات، وتزايد الخطر على كل الأساسيات المرتبطة بحياة ومعيشة اللبنانيين.
وعلى ما يقول خبراء اقتصاديون لـ"الجمهورية"، فإنّ لبنان، وفي غياب العلاجات والتدابير العاجلة، مهدّد بالدخول في ما يشبه المجاعة، مع انعدام قيمة الليرة امام الدولار الذي طرق بالأمس باب الـ33 الف ليرة، ويتجّه مساره الى اعلى، وكذلك مع الشح في الأساسيات وعدم قدرة المواطن اللبناني على تحمّل الغلاء الفاحش وفلتان عصابات الاحتكار.
أزمة وطنية!
والمخاوف التي يعبّر عنها الاقتصاديون تتقاطع مع قراءة أكثر تشاؤماً تبديها مصادر سياسية مسؤولة، حيث قالت لـ"الجمهورية": "كان يفترض ان تدشن الانتخابات مرحلة جديدة عنوانها التلاقي والشراكة في البحث عمّا يُخرج لبنان من أزمته، الّا انّ هذه الانتخابات عبّرت عن واقع لبنان كما هو، اي انّها عبّرت عن الانسداد السياسي والافتراق بين مكوناته. وبالتالي، الخشية اليوم أكبر من أي وقت مضى من أن ينقل هذا الانسداد لبنان الى وضع اكثر تأزماً وتفجّراً، اي ان ننتقل من أزمة سياسية واقتصادية عميقة، الى أزمة وطنية أكثر عمقاً وخطورة. وما يعزز هذه الخشية، انّ مواقف بعض المكونات السياسية تعزّز هذا الانسداد، وبقاء لبنان معلقاً في الهواء تتجاذبه المصالح والأهواء، وآيلاً للسقوط في ما قد يهدّد أمنه واستقراره".