نشأنا في لبنان على امثال شعبية كثيرة، هدفها ان تعكس الواقع وتعطي حكمة يتم تناقلها من جيل الى جيل عبر العقود. من هذه الامثال الشهيرة مقولة "انا وخيي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب" وخلاصتها ان المرء يقف الى جانب الاقرب اليه لمواجهة الابعد منه، لكنه يقف مع الابعد منه لمواجهة الغريب اياً يكن. وبعد الخلاف الكبير الذي ساد بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والذي يعود تاريخه الى ايام تولي العماد ميشال عون قيادة الجيش اللبناني في القرن السابق من الزمن، لاحت في الافق فرصة التقارب وانطلقت التفاهمات والتسويات متزامنة مع عبارة "اوعا خيّك"، فيما كان تيار المردة ورئيسه سليمان فرنجيه بمثابة "الغريب". وكان في حينه تطبيق المثل: "التيار والقوات على المردة". اليوم، وبعد عودة الامور الى ما كانت عليه في السابق، وبعد فشل محاولة التقارب بين القوات والمردة، وعودة التيار والمردة الى اجواء التفاهم، بات المثل كالتالي: "التيار والمردة على القوات"، بما يعني عملياً قلب المثل ليصبح "انا وابن عمي على خيي...".
ميدانياً، ساهمت الانتخابات النيابية في حصول مثل هذا التقارب وقلب الامور، وهي اتت بعد تعبيد الطريق امام تفاهم التيار والمردة بهمّة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والخطوات العملية التي قام بها لايصال الامور الى نهاياتها المرسومة. ووفق ما تقوله مصادر قريبة من التيار والمردة معاً، فإن الحسابات قد وضعت على الطاولة قبل الانتخابات، وكان لا بد من استيعاب اي "مفاجأة" قد تطرأ على ميزان القوى المسيحي، في ظل المتغيرات التي عصفت بالبلد على مدى اكثر من سنتين، ولا مكان بالتالي لاي احداث طارئة اذ لن يكون الوقت متاحاً لاستيعابها والتعامل معها كما يجب. وتضيف المصادر نفسها انه كان التقارب بين الطرفين كجبهة تتصدى لما يمكن للقوات ان تحصده في الانتخابات بغض النظر عن الظروف التي ادت الى هذه النتائج، فكان تبادل الغزل بين النائب جبران باسيل وسليمان فرنجية بمثابة الرسالة الواضحة لرئيس القوات اللبنانية سمير جعجع مفادها ان الساحة المسيحية لن تسلّم له، وان الاكثرية النيابية التي "يتقاتل" عليها مع التيار، لن ترسو على شاطئه مهما كان الثمن.
في المقابل، ترى مصادر قريبة من القوات ان هذا التفاهم لن يكون الا مرحلياً، وان العلاقة ستعود الى التوتر بين المردة والتيار مع تقدم الوقت واقتراب الاستحقاقات ومنها النيابية والرئاسية. وتضيف هذه المصادر: ما هو موقف فرنجية حيال رفض التيار اعادة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى منصبه، وهو الذي تربطه علاقة اكثر من وثيقة مع رئيس حركة "امل"؟ وتسأل ايضاً: ماذا سيكون عليه الحال عند اقتراب الاستحقاق الرئاسي، وهل سيبقى الغزل قائماً بين الرجلين ام انهما سينتقلان كل منهما الى ضفة لمواجهة الآخر واثبات احقيته في هذا المنصب؟ وما هو موقف فرنجية نفسه من الكلام صادر عن النائب اللواء جميل السيد من قصر بعبدا حول امكان بقاء رئيس الجمهورية في منصبه حتى بعد انتهاء ولايته؟ وتتابع المصادر ان القوات اختبرت الطرفين، وذهبت مع التيار الى حدود لم تكن موجودة سابقاً، وتبيّن لها ان التفاهم معه لا يمكن ان يستمر، ولا بد ان يعود الانقسام في وقت ما.
في المحصّلة، لن يكذّب المستقبل التاريخ، وما شهده لبنان من انقسام على الساحة المسيحية لسنوات طويلة، لن يختفي بسهولة مهما كانت الظروف، حتى ولو كان الثمن انقاذ البلد وشعبه من كارثة، وسيبقى التشرذم المسيحي سائداً لان نهايته ستعني حكماً استقرار الامور في لبنان، نظراً الى الدور الاساسي لهذه الطائفة في التقارب بين الطوائف والمذاهب الاخرى، ولكن اذا كان المسيحيون منقسمون واختار كل منهم الانضمام الى طائفة او مذهب (سياسياً)، فإن النتيجة معروفة سلفاً وسيبقى لبنان يتخبط في مستنقع الرمال المتحركة.