أنا لبنانيٌّ، أنا أنتمي الى أرضٍ أعطَتَني إسمَها، وَلَيسَ العَكسُ كما مُعظَمُ الإنتِماءاتِ التي إلَيها يَنهَدُ البَعضُ. هَؤلاء لا يَعرِفونَ أنَّ هَذِهِ الأرضُ حامِلَةٌ إسماً هو الأقدَمُ في التاريخِ، لِكُتلَةٍ جَبَلِيَّةٍ قِمَمُها في جِوارِ السَماءِ: كُتلَةٌ مُتَراصَّةٌ، مُتَرابِطَةٌ، مُتماسِكَةٌ، يَربِطُ بَينَها بِرِباطٍ أبَديٍّ سَهلٌ مُنبَسِطٌ كَكَّفِ السَماءِ، يَزخَرٌ بِمَواسِمَ حَصادٍ لِقَمحِ القُربانِ وَخَمرِ الذَبيحَةِ.
لا! لَيس لبنانُ-الأرضُ أصغَرُ مِن أن يُقَسَّم، بَل أكثَر: هو الأرضُ التي لا يُمكِنُأن تُقَسَّم.
لا! أنا لَستُ إبنَ وَطَنٍإستَفرَدَت بِهِ قَبيلَةٌ، أو إستَوطَنَهُ شَعبٌ، أو صادَرَتهُ عائِلَةٌ فَصارَ غَنيمَةً بِمَن فيهِ... وَمَن فيهِ غَنائِم.
لا! أنا لَستُإلَّا مُتَجَذِّراً في تُرابٍ، وَجُذوري صَلبَةٌ لأنَّها مِن أرزٍ، وَتاريخِ أرزٍ، قَبلَ أن كُوِّنَ ما تَكَوَّنَ، وَقَبل أن كانَ مَن كانَ. أأُسائِلُ مَغاوِرَ كامِد اللوز، وَنهرِإبراهيم وكسار عقيل، مِن عُصورِ ما قَبلَ قَبلَ التاريخِ؟
أجَل! أنا، في ما فيَّ–لأنّيفي هويِّتي، وَهيَ فِيَّ– مَشروعُ جُذورٍ لا يُمكِنُ لأيِّ لبنانيٍّ التَنَكُّرُ لها. أللهُمَّ إن كانَ لُبنانيَّاً! قُل: مَشروعٌ يَخُصُّ جَميعَ اللبنانييِّنَ إن وَعوا حَقيقَتَهُم. وَهُم إن وَعوها، صادَقوها وَصِدقوا بِها، زاوَلوها، تَمسَّكوا بِها وإكتفوا. غَيرَ ذَلِكَ، يَكونونَ هُم مَن أطلَقوا عَلى كِيانيَّتِها حُكمَ المُماتِ. هُنا لا جَدَليَّةَ، بَل بُلوغُ غُرَّةِ الهويَّةِ اللبنانيَّةِ في ما هي مَشروعُإلزامٍ وإلتِزامٍ، مَشروعُ وجوبٍ جامِعٍ.
أنا لُبنانيٌّ، إذا أنا أدومُ! لا أضمَحِلُّ إن إعتَرَفتُ قَولاً، وأتسامى إذ أعتَرِفُ فِعلاً. وها الشاهِدُإمبراطوريَّةُالإنفِتاحِ والتَثاقُفِ التي بَناها لبنانُ عَبرَ العالَمِ القَديمِ بأسرِهِ لِنَحوِ ألف عامٍ، بأساطيلَ التَبادُلِ الإقتِصاديِّ والحَضاريِّ، وإقرارِ الإعتِرافِ بالآخَرِ المُختَلِفِ... مٌنذُ نحو 1200 سَنَةٍ قَبلَ المَسيحِ.
وَهوَ ما دَفَعَ أحَدَ كِبارِ عُلَماءِ التاريخِ، أرنولد توينبي، الى المُجاهَرَةِ "أنَّ تاريخَ لبنانَ هو التاريخُ"! لا أقَّل ولا أكثَر. فَهوَ نَظَرَ الى الهاهُنا فَما وَجَدَ لَهُ قَبلاً، وَنَظَرَ الى الهُناكَ، فَوَجَدَ بُعداً قَريباً لا ضارِباً في العُمقِ: اليونانُ وَرَفدِهِم اوروبا، الحامِلَةِ أساساً إسماً وَصِفَةً وَكَينونَةً مِن صورنا، إذ كانَت صورُ سَيِّدةَ العالَمِ، هَذِهِ اليونانُ ما بَرَزَت إلَّا بَعد بَعد، في القَرنِ الخامِسِ قَبلَ الميلادِ مَعَ بيريكليس. أمَّا روما حاكِمَةُ العالَمِ القَديمِوَحَكَمُهُ بالقُوَّةِ العَسكَرِيَّةِ المُقصِيَةِ لِكُلِّ تَفَرُّدٍ وَإختِلافٍ، فَمَا بَلَغَت حِكمَةَ تاريخِنا، بَل دَمَّرِت قَرطاجَتُنا إبنَةَ صور، بَعدَما كانَ المَقدونيُّ اليونانيُّ دَمَّر صورَنا، فَكانَ تاريخُ الضَحِيَّةِ مَرويَّاً بِجَزَّارِيها، على ما يَعتَرِفُ بيار هوباك.
إنبِثاقُ هويَّةٍ-أمٍّ
مِن هذا الوجوبِ، تَنبَثِقُ مِن هويَّتي اللبنانيَّةِ، أنا الَلبنانيُّ-الَلبنانيُّ مَنهَجِيَّةُ هويَّةٍ-أمٍّ تَتَظَّهَرُ في تَجَسُّدٍ. بِهِ نَصيرُ شَعباً، وَيجِبُ ذَلِكَ، وَبِهِ نَصيرُ واحِداً، وَيَجِبَ ذَلِكَ، وَبِهِ نِصيرُ أحَداً، وَيَجِبُ ذَلِكَ. في وجوبِ التَخصيصِ هذا، فَرادَتُنا. مِنهُ، وَفيهِ، وَمَعَهُ، تُصبِحُ هويَّتُنا، المُنطَلَقُ أي المُبتَدأ، وَالبُلوغُ أيّ الغايَةُ. وَنَحنُ نَحنُ المُلتَقى.
مُلتقى الإنبِثاقِ. وأيُّ إنبِثاقٍ؟ ذاكَ الذي يَربِطُ إدراكَ السَماءِ بِدءاُ مِن رَوابِطَ أرضٍ... هي وَجهاً لِوِجهٍ مِعِ ساكِن السَماءِ وَسُكَّانِ الأرضِ، بَينَ الخالِقِ والخَليقَةِ.
أفي ذَلِكَ إفتِخارٌ بالهويَّةِ الَلبنانيَّةِ بأبعادِها الكَونيَّةِ، بِوَجهِ التَجهيلِ المُتَعَمَّدِ والتَمزيقِ المُراِدفِ؟ إنَّهُ أكثَرُ مِن عُنفوانٍ. هوَ إعتِدادٌ بالنَفسِ فَوقَ الزَمانِ، لا يؤَرَّخُ... بَل يُعقلِنُ الإنسانيَّةَ!.
*الصورة المرافقة هي لوادي قاديشا (وادي القدّيسين) شمال لبنان