لم ينتهِ بعد "جدل" أولى جلسات البرلمان اللبناني، التي أفضت لتكريس "أكثرية متحركة" يقودها "حزب الله"، وقد أدّت إلى فوز كلّ مرشحيه إلى هيئة مكتب المجلس بـ65 صوتًا، لكنّها أفضت أيضًا إلى "معارك كبرى" في صفوف قوى "المعارضة" التي يبدو أنّها انقسمت على بعضها، حتى إنّ الخلافات هزّت تكتل "نواب التغيير" الذي لم يبصر النور رسميًا.
لكن، في وقت تتواصل القراءات والتحليلات لما حدث الثلاثاء، ومعها تتواصل النقاشات حول "السبل المثلى" للتعامل مع الوضع، طالما أنّ المعارضة أثبتت أنّها لا تشكّل "أكثرية متراصة" بقدر ما تجسّد "أقليات غير متجانسة"، بدأت الأنظار تتّجه نحو الاستحقاق "الأثقل" الذي ينتظر النواب، والمتمثل بتسمية رئيس جديد للحكومة، بموجب استشارات نيابية ملزمة.
ومع أنّ الكلّ بانتظار أن يدعو رئيس الجمهورية إلى هذه الاستشارات، التي لا يرجَّح أن تحصل قبل نهاية الأسبوع المقبل، وبعد الانتهاء من "قطوع" اللجان النيابية الثلاثاء المقبل، فإنّ الكواليس السياسية بدأت تضجّ بـ"السيناريوهات" المحتملة للاستشارات المرتقبة، ولا سيما في ضوء "استبعاد" فرضية "التوافق"، ولو أنّ ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" يعملان عليها.
وبانتظار أن تتبلور الصورة أكثر في الأيام المقبلة، تُطرَح العديد من الأسئلة، فهل يكون اللبنانيون على موعد مع تكرار لـ"تسوية الـ65"، عبر تسمية رئيس حكومة بـ65 صوتًا، بعد فوز كل من نبيه بري والياس بو صعب وآلان عون بالنسبة نفسها؟ وفي المقابل، هل "تتّحِد" قوى المعارضة في هذا الاستحقاق، فتنجح في "فرض" خياراتها على الآخرين، بشكل أو بآخر؟.
الأكيد أنّ الرؤى لا تزال، أقلّه حتى الآن، متباينة بين مختلف "المعسكرات" النيابية، إلا أنّ فريق "حزب الله"، الذي رسّخ "سيطرته" في أولى جلسات البرلمان، رغم ما قيل عن فقدانه الأغلبية، واعترافه بنفسه أنّ أحدًا لا يستطيع ادّعاء امتلاكه الأكثرية، يصرّ على خيار "التوافق"، بل يدفع سلفًا باتجاه تكرار صيغة حكومة الوحدة الوطنية، التي تجمع كل القوى، بما فيها تلك الوجوه "التغييرية" التي كرّستها الانتخابات الأخيرة جزءًا أساسيًا من المشهد.
يرى هذا الفريق أنّ عوامل عدّة يفترض أن تدفع نحو "التوافق المحتّم" لا على شخص رئيس الحكومة فحسب، والذي قد يكون "ثانويًا"، بل على شكل وتركيبة الحكومة التي ينبغي أن يؤلّفها من دون تأخير، ومن أهمّها أنّ المرحلة لا تحتمل أيّ "مماطلة"، فالانهيار الاقتصادي يتسارع، والناس التي لم تعد "المسكّنات" تنفعها تريد حلولاً مستدامة، بعيدًا عن الخطط والوعود، التي تبقى حبرًا على ورق، علمًا أنّ الحكومة المرتقبة لا يفترض أن "تعمّر" طويلاً.
وانطلاقًا من هذه الفكرة تحديدًا، ثمّة من يدعو إلى "إعادة" حكومة نجيب ميقاتي لتمرير الوقت "المستقطَع" قبل انتخابات رئاسة الجمهورية، ولا سيما أنّ هذه الحكومة بدأت مسارًا يجب أن يُستكمَل، وقد يكون من المجدي أن تستكمله بنفسها تفاديًا لأيّ تضييع للوقت، فضلاً عن كونها نجحت إلى حدّ بعيد في الحصول على مظلّة إقليمية ودولية، واستطاعت "كسب ودّ" الدول الشقيقة والصديقة، رغم كلّ الأزمات التي عصفت بالعلاقات في المرحلة الماضية.
إلا أنّ هذا "الخيار" الذي يقال إنّ "حزب الله" و"حركة أمل" يدفعان باتجاهه، لا يزال "يصطدم" ببعض "الممانعة" التي يبديها جزء من "أركان" تسوية الـ65، إن جاز التعبير، وعلى رأسهم "التيار الوطني الحر" الذي يقول إنّ لديه "ملاحظات" على أداء ميقاتي، والذي يتعامل مع الحكومة بـ"حذر شديد" لكونها من ستستلم الصلاحيات "الرئاسية" في حال "الفراغ" في الموقع الأول، ولو أنّ البعض يقول إنّ "حزب الله" قادر على "اجتذابه" في النهاية.
على ضفة "المعارضات" غير المتوافقة فيما بينها، لا يبدو أنّ خيار "التوافق" على ميقاتي أو غيره سيلقى آذانًا صاغية، فبالنسبة إلى "القوات اللبنانية" مثلاً، فإنّ "استنساخ" الحكومة الحاليّة لن يحقّق أبدًا التغيير الذي طلبه الناس في صناديق الاقتراع، ولو أضيف إلى الحكومة مثلاً شخصيات جديدة تمثّل القوى الأخرى التي أفرزتها الانتخابات النيابية، والتي لن تلعب أكثر من دور "تجميلي" للحكومة في أحسن الأحوال، ومن باب "رفع العتب" ربما.
وتؤكد "القوات" أنّها لا تزال على موقفها من حكومات التوافق الوطني، التي تفضّل تسميتها بـ"حكومات التكاذب الوطني"، والتي ثبُت بالممارسة أنّها "أسوأ النماذج" الحكومية على الإطلاق، ما يعني أنّها لا يمكن أن تكون الخيار المناسب في مرحلة "إدارة أزمة" كالتي يواجهها لبنان اليوم. ولذلك، يرمي المحسوبون على "القوات" الكرة في ملعب نواب "التغيير"، فإما يكونون على قدر الثقة التي منحهم إياها الشعب، وإما يكررون "خطيئة" الثلاثاء الكبير.
وعلى ضفة هؤلاء النواب، همس عن خلافات وانقسامات، بدأت تظهر أمام الرأي العام بعد أولى جلسات البرلمان، ويبدو أنها ستنعكس على "استحقاق" رئاسة الحكومة، ولو أنّ هؤلاء يصرّون على القول إنّهم لا يزالون يدرسون خياراتهم بشأن التعامل مع الاستشارات، وسط حديث عن أنه سيكون لهم "مرشحهم"، الذي يشير البعض إلى أنه لا بدّ أن يكون خارج "الاصطفافات" بالمُطلَق، ولو أنّ بينهم من يدفع إلى "التنسيق" مع "القوات" مثلاً للتوافق على مرشح واحد.
الأكيد، وفق ما يقول هؤلاء، إنّهم لن يدعموا أيّ "مرشح توافقي" لأنّ الأساس بالنسبة إليهم، قبل إيصال "مرشحهم"، هو "تثبيت" منطق الأكثرية التي تحكم والأقلية التي تعارض، علمًا أنّهم "يفضّلون" وفق ما يوحي البعض، البقاء في مقاعد المعارضة لإرساء نموذج جديد، "يضغط" على الحكومة، من خلال "المساءلة والمحاسبة" المغيَّبة قسرًا منذ سنوات.
ثمّة سيناريوهات عدّة لا تزال مطروحة، بينها أن يعود ميقاتي بموجب "التسوية الجديدة" التي تجلّت في جلسة الثلاثاء، لكن بينها أيضًا أن تتّفق "أكثرية ما" على اسم مختلف لإدارة مرحلة يخشى كثيرون أن يكون عنوانها "الفراغ والشلل"، خصوصًا أنّ تسمية رئيس الحكومة لن تكون سوى "أول الغيث" في مسار طويل قد لا ينتهي بولادة حكومة قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وهنا الطامة الكبرى، على الأرجح!.