كما في كلّ الاستحقاقات منذ ولادة المجلس النيابي، كانت كلّ الأنظار مشدودة في جلسة انتخاب اللجان النيابية نحو موقف نواب "التغيير" وأدائهم، بمُعزَلٍ عن سائر الكتل ورموز المنظومة، رغم أنّ الكتلة المُستحدَثة في المجلس النيابي لا تشكّل أكثر من أقلية، لا يتجاوز عديد أفرادها 13 نائبًا، يصعب أساسًا وضعهم في "سلّة واحدة"، نظرًا لغياب التجانس بينهم.
وكما في الاستحقاقات السابقة، وربما التالية، تقاطعت معظم "تحليلات" الجلسة، عند الحديث عمّا إذا كان النواب الجُدُد قد "سقطوا" في "امتحانهم الثاني"، بعدما ركنوا إلى منطق الاستعراض والمزايدة، بعيدًا عن الواقعية والبراغماتية، علمًا أنّ مجرّد فكرة أن يكون هؤلاء النواب تحت المجهر في كلّ حركة يقومون بها، مع غضّ النظر عن الآخرين، من شأنها إثارة الجدل.
في النتيجة، تعرّض نواب "التغيير" مرّة أخرى للوم والانتقاد، من الأصدقاء قبل الخصوم، فصحيح أنّهم فرضوا إيقاعهم على جلسة انتخاب اللجان، التي كانت تنتهي في غضون دقائق، فإذا بها تتحول إلى "أشغال شاقة" للنواب الذين أبدوا تذمّرهم، إلا أنّهم في الوقت نفسه خاضوا معركة "خاسرة" بكلّ المقاييس، لم ينجحوا خلالها بتحقيق الكثير من الخروق العمليّة.
لعلّ خير دليل على ذلك أنّ انتخابات اللجان أفضت إلى إبقاء "القديم على قدمه"، خصوصًا في تلك الأساسيّة والرئيسيّة منها، ما يطرح العديد من علامات الاستفهام، فأيّ مكاسب حقّقها النواب الجُدُد من المعركة التي يتفاخرون بفرضها؟ ألم يكن الأجدى بهم التسلح ببعض الواقعية والانخراط في تحالفات تضمن لهم حجز مواقعهم في هذه اللجان، بغية التأثير فيما بعد؟.
في الشكل أولاً، وبمعزل عن النتائج، يقول نواب "التغيير" إنّهم نجحوا في ترك "بصمة" من خلال تأسيسهم لنموذج "ديمقراطي" في الأداء البرلماني، بعيدًا عن "العرف" الذي اختبرته البرلمانات المتعاقبة منذ الطائف، والتي كانت قائمة بمجملها على تغليب منطق "المحاصصة" على ما عداها، على طريقة تقاسم المغانم، وفق مبدأ "خذ هذه اللجنة وأعطني تلك".
لا ينكر هؤلاء أنّ الأمر تحوّل إلى "مشقّة" لكثيرين، ودفع بعض النواب إلى الاعتراض والشكوى، من عملية كان يمكن أن تنتهي في غضون دقائق قليلة، فاحتاجت إلى نهار "ماراثوني" كامل من دون أن تنتهي، لكنّهم يستغربون تحميلهم المسؤولية في ذلك، علمًا أنّ من يطالب بالتوافق كان بإمكانه بكلّ بساطة الانسحاب لصالح تمثيلهم في اللجان الأساسية، ما لم يحصل.
يلفت المحسوبون على نواب "التغيير" إلى أنّهم لم يرفضوا التوافق بالمُطلَق، لكنّهم أرادوا "تسجيل موقف" في وجه محاولات "الإقصاء"، خصوصًا في اللجان الكبرى، على غرار لجنتي المال والموازنة، والإدارة والعدل، حيث كان واضحًا أنّ الأحزاب التقليدية "متوافقة" فيما بينها على "احتكار" التمثيل فيها، ربما للدور المحوري الذي ينبغي أن تلعبه في ظلّ الأزمة.
يستشهد نواب "التغيير" بفوز بعض اللجان، غير الأساسيّة ربما، بالتزكية للدلالة على "انفتاحهم" على التوافق، ويقولون إنّهم قدّموا ترشيحاتهم وفق الأصول إلى الأمانة العامة لمجلس النواب، من دون أن يسلكوا طرقًا فرعيّة لا تشبههم، وكانوا ينتظرون أن يأتيهم ردّ، أو يتفاوض معهم أحد، بموجبها، لكنّ ذلك لم يحصل، ما يعني أنّهم لا يتحمّلون مسؤولية ما ذهبت إليه الأمور.
لكن، في مقابل دفاع "التغييريين" عن أدائهم، يرى نواب آخرون، وبعضهم ممّن لا يعتبرون أنفسهم في "خصومة" معهم، بل يصنّفونهم ضمن دائرة "الحلفاء" إلى حدّ بعيد، أنّ "الشعبوية" لا تزال عنوانًا لأدائهم، فالحديث عن "الديمقراطية" جميل ويستحقّ الثناء، لكنّه في مسألة اللجان تحديدًا، يبدو أقرب إلى "الشعارات" التي لا تنطوي سوى على "مزايدات".
يقول هؤلاء إنّ فرض "معركة" على عضوية لجان يعبّر عن "تكتيك خاطئ" وقع نواب "التغيير" في فخّه، خصوصًا أنّ اللجان "تتّسع للجميع"، والتوافق عليها ما كان ليشكّل "إدانة" لهم، ولو تمّ مع رموز "المنظومة" التي يعارضونها، علمًا أنّهم قادرون على حضور اجتماعات كلّ اللجان، ولو لم يكونوا أعضاء فيها، من دون أن يتمتّعوا بحق التصويت فقط.
من هنا، يرى هؤلاء النواب أنّه كان الأجدى بـ"التغييريين" الدخول في تفاهمات كما فعل غيرهم، لحجز مواقعهم في مختلف اللجان، بدل أن يخوضوا معركة يدركون سلفًا أنّها ليست في صالحهم، فيخرجوا "من المولد بلا حمص" كما يقول المثل، وهو ما حصل على سبيل المثال لا الحصر في لجنة الإدارة والعدل، التي غُيّبوا عنها بالمطلق، رغم كونها من أهمّ اللجان.
على هذه النقطة بالتحديد، يردّ المتحمّسون لنواب "التغيير" بالإشارة إلى أنّ المعركة التي خاضوها، ولو كانت خاسرة في الشكل، "فضحت" الكثير من الأمور التي لا يمكن غضّ النظر عنها، وأولها أنّ بعض الكتل، المعترضة دومًا على شمولها ضمن "كلن يعني كلن"، أهدت أصواتها لرموز "المنظومة"، وحجبتها عن نواب "التغيير"، بعد خضوعها لـ"المحاصصة".
يقولون في هذا السياق إنّه لم يكن سرًا مثلاً "تبادل الأصوات" بين كتلتي "لبنان القوي" و"الجمهورية القوية" رغم كلّ الخلافات الدائرة بينهما، ولم يكن خافيًا على أحد أنّ بعض النواب المصنَّفين "سياديين" لم يتردّدوا في منح أصواتهم لنواب مطلوبين للعدالة في قضية انفجار مرفأ بيروت (علي حسن خليل وغازي زعيتر) وهو ما يفترض "مساءلة" هؤلاء شعبيًا.
وإذا كان من فاز من نواب "التغيير"، على قلّتهم، في المعارك التي خيضت، فعلوا ذلك بـ"دعم" من القوى والأحزاب التقليدية، باعتبار أنّ النائب إبراهيم منيمنة مثلاً حصل على ما يزيد عن نصف أصوات النواب للدخول إلى لجنة المال والموازنة، فإنّ الأهم بالنسبة إليهم أنّهم أرسوا ثقافة جديدة في العمل البرلماني، تأسيسًا لمبدأ "المحاسبة" الذي يريدون تكريسه.
في النتيجة، لا يمكن لانتخابات اللجان أن تكون "الفيصل" في تحديد وجهة الأمور، خصوصًا أنّ "حابل" التحالفات اختلط بـ"نابلها" فيها، فتحوّل الخصوم إلى حلفاء، يتبادلون المراكز والمناصب، باتفاقات مسبقة، بقي "التغييريون" وحدهم خارجها. وبين "التكتيك الخاطئ" والرغبة بـ"تسجيل موقف"، يبدو أنّ هؤلاء سيبقون تحت "الامتحان" حتى أجل غير معلوم!.