قبل أن يحلّ موعد الاستشارات النيابية الملزمة في قصر بعبدا، برز "حراك" سعودي لافت على امتداد الأيام القليلة الماضية، في ما اصطلح على تسميته بـ"استشارات اليرزة"، التي قادها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، من خلال مجموعة من اللقاءات والاجتماعات التي عقدها مع عدد من النواب السنّة، من مختلف الانتماءات والكتل النيابية.
ولعلّ اللافت كان تفاوت الانطباعات حول هذه اللقاءات بين من اعتبرها بمثابة "جسّ نبض" من جانب القيادة السعودية ليس إلا، ومن رأى فيها "مشروعًا جديًا" تبلوره الرياض الساعية لاستعادة "نفوذها" في الساحة اللبنانية، خصوصًا في ضوء التسريبات التي وضعت الاجتماعات التي تمّت بـ"المفرّق"، في خانة "التمهيد" لما هو "أكبر وأعمق" منها، إن جاز التعبير.
وفي هذا السياق، ثمّة من ذهب بعيدًا ليتحدّث عن مسعى سعودي للتأسيس لـ"لقاء سنّي موحّد" يجمع النواب السنّة تحت لوائه، وتكون الرياض مرجعيته، بما يمكن أن يشكّل "بديلاً" يعوّض عن غياب القيادة السنية الحقيقية، بموجب "التشتّت" الذي أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة، وقبلها تعليق رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري مشاركته في العمل السياسي.
إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام حول مغزى وفحوى "استشارات اليرزة"، وما إذا كانت تشكّل محاولة من جانب الرياض للتأثير على مسار استشارات بعبدا الملزمة ومحاولة لقلب نتائجها المتوقعة، ولكن أبعد من ذلك، حول ما تريده السعودية في لبنان في المرحلة المقبلة، بعد سنوات تخلّلها الكثير من الأخذ والردّ، وربما سوء التفاهم أيضًا.
في المبدأ، وبعيدًا عن كلّ التأويلات والتفسيرات، كما الاستنتاجات التي تحتمل الصواب والخطأ، يتقاطع المعنيّون بـ"استشارات اليرزة"، سواء منهم المرتبطون بالسفارة السعودية، أو النواب السنّة، وبينهم مستقلّون غير محسوبين عمليًا على الرياض، عند تأكيد أنّ اللقاءات التي جرت في الأيام الأخيرة كانت "عامّة"، ولم تكن مخصّصة للحديث عن الشأن الحكومي، أو عن الشخصية التي يتوقع تشكيلها لرئاسة الحكومة في المرحلة المقبلة.
أكثر من ذلك، ثمّة بين هؤلاء من يجزم أنّ الشأن الحكومي لم يحضر أساسًا في بعض هذه اللقاءات، التي تداولت في "الشؤون العامة"، وعكست في مكان ما "انفتاح" الرياض على الوجوه النيابية الجديدة، ورغبتها في فتح قنوات تواصل معهم، خصوصًا أنّ الساحة السنية تعتبَر أكثر "المتأثرين" برياح "التغيير" إن جاز التعبير، وهو ما أسهم في حصول عزوف بعض "الزعماء التقليديين"، وعلى رأسهم سعد الحريري، عن خوض غمار الانتخابات الأخيرة.
بهذا المعنى، يقول عدد من النواب السنّة ممّن شملتهم اللقاءات إنّ الحراك السعودي ينطوي على "علاقات اجتماعية" في أحسن الأحوال، وهو لا يعكس بأيّ شكل من الأشكال "تدخلاً سعوديًا" في عملية التأليف، حيث ينفون أن تكون وردتهم أيّ "كلمة سرّ" من جانب الرياض، حول الشخصية "المفضّلة" لديها للتكليف، كما ورد في بعض التحليلات الصحافية، التي أوحت بأنّ "انقلابًا في الموازين" حصل بفعل التدخل السعودي المباشر.
ويذهب بعض العارفين أبعد من ذلك ليشبّه الحراك السعودي اليوم بذلك الذي حصل عشيّة الانتخابات النيابية الأخيرة، ليشيروا إلى أنّ الرياض لو أرادت فعلاً "التأثير" في مسار الأحداث ومجريات المعركة، لما انتظرت حتى اللحظة الأخيرة لتفعل ذلك، بل إنّ هناك من يضع خطواتها في إطار "رفع العتب" ليس إلا، لأنّ الموقف السعودي لا يزال ميّالاً باتجاه "غضّ النظر" عن الساحة اللبنانية، من دون تركها في الوقت نفسه "شاغرة" للخصوم.
لكن، إذا كانت "استشارات اليرزة" التي استبقت "استشارات بعبدا"، لم تكن "مركّزة" على استحقاق "التكليف"، وفق ما يقول العارفون، هل يمكن النظر إليها من زاوية أخرى، على غرار التأسيس لدور سعودي جديد في لبنان؟ هل تحاول الرياض أن تفرض "كلمتها" على أبواب استحقاق التأليف، وربما قبله وما هو أهمّ منه، استحقاق الرئاسة الذي لم يعد بعيدًا، وبات يُحتسَب بالأسابيع لا الأشهر؟!.
تتفاوت التقديرات في هذا السياق، وإن كانت معظمها تتقاطع عند وجود "حرص" لدى الرياض على "حجز" موقع لها في المعادلة، بالنظر إلى الاستحقاقات الآتية، وحتى لا يتكرّر "سيناريو" العهد الحالي، الذي دفع السعودية نحو الابتعاد شيئًا فشيئًا عن لبنان، فيما تدهورت علاقتها بمن كانوا يوصَفون "رجالها"، وعلى رأسهم سعد الحريري، الذي وجد نفسه في نهاية المطاف خارج الحياة السياسية، مُكرَهًا لا بطلاً، رغم كلّ ما يجاهر به المقربون منه بخلاف ذلك.
بهذا المعنى، يأتي "انفتاح" الرياض على الممثلين الشرعيين الجدد للطائفة السنية من باب التأقلم مع "الأمر الواقع" الجديد الذي فرضته الانتخابات الأخيرة، والتي قد تشكّل "فرصة" للرياض للعودة إلى لبنان، من باب "جمع التناقضات"، ولا سيما أنّها ترى في معظم الشخصيات السنية ما ينسجم مع "المبادئ والثوابت" التي ترفعها، بما يتيح لها، إن رغبت، في "ترتيب البيت الداخلي" السنّي، بالتعاون والتنسيق مع دار الفتوى، التي تحرص على "الحياد".
يقول البعض إنّ هدف السعودية من حراكها المستجدّ ليس بالضرورة التأثير على "شخصية" رئيس الحكومة المكلَّف، ولا سيما أنّها تدرك أن ما كُتِب قد كُتِب، وقد لا يعنيها أيضًا الغوص في دهاليز عملية تأليف الحكومة العتيدة وحصص كل فريق فيها، ولا سيما أن هناك من يجزم أن أيّ حكومة لن تؤلف في المدى المنظور، ولكن الأهمّ بالنسبة إليها فرض موقعها في المعادلة، تأسيسًا لمشهد جديد يفترض أن يتزامن أو ينبثق عن السباق المقبل نحو الرئاسة.
صحيح أنّ هناك من "ربط" تلقائيًا بين استشارات اليرزة وبعبدا، نظرًا للتزامن كما الترابط بينهما، وأنّ هناك من وضع الحراك السعودي في إطار أزمة "التكليف"، خصوصًا في ظلّ ما يحكى عن عدم "مباركة" الرياض للتجديد لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، رغم تحسّن العلاقات بينهما في الفترة الأخيرة، لكنّ "كلمة السر" الحقيقية قد تكون أبعد مدى من الاستحقاقات الآنية، وهنا بيت القصيد الذي لا يمكن تجاهله!.