ليس صدفةً أن يُغِيرَ الطيران الأميركي على 300 هكتار مزروعة بالقمح في سهول الحسكة والرقّة في سوريا في شهر أيار 2020. وليس صدفةً أن تُفجَّرَ أَهراءُ القمح في مرفأ بيروت عام 2020 في "حادث قد يكون مدبّرا" سببه، أولاً وآخراً، الفسادُ المستشري في جسم الدولة اللبنانية منذ نهاية الحرب اللبنانية حتى اليوم. وهل الاثنا عشر حريقاً التي شبَّتْ في محافظة صلاح الدين العراقية عام 2021 هي صدفة أيضاً؟ وماذا عن إحراق 90 فداناً في مشروع "الجزيرة" في السودان في نيسان 2020، أهو صدفة؟ ويتساءل التونسيّون حول دوافع "لوبيّات" التوريد التي أحرقت محاصيل البلاد عام 2019؛ وتزامن هجوم روسيا على أوكرانيا في نيسان هذا العام مع الحرائق الهائلة التي التهمت 76 طناً من القمح في مصر في مشهد مريب... أهذا كلّه أيضاً صدفة؟ ومنذ أسبوعين أقدم مستوطنون إسرائيليون عمداً على إحراق محاصيل قمح بلدة "قصرة" الفلسطينية في نابلس!. حتماً انتهى زمن الصُّدَف. ألم يلاحظ العرب انهم المستهدفون الأُوَل في عملية إعدامهم الجماعية؟ ألم يفطَنوا حتى اليوم إلى أن الحرب العالمية الثالثة قد انطلقت بسلاح القمح والنفط؟.
في منظمة الأمم المتحدة يتراشق الكبار تُهَمَ أسباب الأزمة الغذائية التي ضربت العالم بأسره. فالولايات المتحدة اتهمت روسيا بتجويع العالم بعد هجومها على أوكرانيا. والأخيرة تتهم روسيا بسرقة 100 الف طن من القمح لتوريده الى سوريا... حقًّا إنها حرب المطاحن الطاحنة، والكلّ يقول: "يا ربّ، نفسي". والهند، التي ربّما كانت البديل عن قمح روسيا وأوكرانيا، عادت واعتذرت بحجّة ان إنتاجها بالكاد يكفي الاستهلاك المحلّي. وهل في وسع أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش سوى أن يطلق نداءات الاستغاثة الى الدول المانحة لجمع مئات المليارات من الدولارات لمواجهة أزمة الغذاء التي أوقعت 821 مليون نسمة في العالم في شباك الجوع.
مُخطئ من يعتقد ان أزمة الغذاء والقمح في العالم سببها الحرب الروسية على أوكرانيا. إن هذه الأزمة بدأت منذ السنوات القليلة الماضية، وسببُها المياه ومن يسيطر على منابعها وعلى السدود. فمباشرةُ تركيا "المدعومة من الناتو" بناءَ السدود وقطعَ المياه عن سوريا والعراق، والصراعُ الذي شبّ منذ سنتين بين أثيوبيا ومصر والسودان حول تعبئة سدّ النهضة ما هما إلا صراع الدول على المياه... او بالأحرى على الحياة. فالمصريون يصلّون كي يبتعد شبح الشحّ عن نهر النيل الذي هو سبب وجودهم وبقائهم على قيد الحياة.
في البدء كانت المياه... ومنها تولد الطاقة، ثم تأتي زراعة القمح والتوزيع والتجارة والنفط لنقل الإنتاج من دولة الى أخرى. إرتفع سعر القمح في العالم وأصبح كالبورصة العالمية في ظل ارتفاع أسعار النفط. راحت كل دولة تعتمد برنامجاً لتُجنِّبَ شعبها المجاعة. ولائحة الأمم المتحدة بدأت تطول حاملة أسماء الدول الساقطة في مستنقع الجوع، وآخرها البارحة انضمام دولة موريتانيا إليها بعد لبنان.
حالة إفلاس تضرب العالم بسبب انهيار العملات وارتفاع أسعار النفط. ارتفعت أسعار النقل البحري عالمياً الى 1000 في المئة. واقترب سعر نقل حاوية البضائع من الصين الى الساحل الغربي الأميركي والموانئ الأوروبية من مستويات قياسية. فلا تعجبنَّ من جنون أسعار القمح والسّلع في أي دولة كنتم بعد اليوم، فالأسعار اشتعلت بعدما زاد الطلب على الكميات المتاحة.
كندا الدولة النشيطة رشّحت نفسها لتكون بديلاً عن روسيا وأوكرانيا. وهي في الأساس تشحن موادها الغذائية الى 120 دولة في العالم. فهي الغنيّة بالنفط والغاز الطبيعي وانتاج الزيوت مرشحة لأن تكون الرابحة الأولى من عزل الاقتصاد الروسي. وتتجه الأنظار اليوم ايضاً الى الأرجنتين لسدّ عجز اوكرانيا وروسيا اللتين تؤمّنان ثلث الصادرات العالمية من القمح. العالم في حالة تأهب قصوى لتأمين الغذاء. الرئيس الصيني "شي جين بينغ" دق ناقوس الخطر، والرئيس الأميركي جو بايدن أنبأ بسنين قادمة يعاني فيه العالم من نقص في الغذاء.
سقط العالم كله اليوم في أزمة غذائية شديدة. وحدها الدول المتقدمة والنامية تعملُ على إنقاذ نفسها وعلى تأمين لقمة العيش لمواطنيها. فسارعت الى بيادرها: عينٌ على الأرض، وأخرى على المناخ المتغيّر. محظوظة هي الدول التي تتمتع بمناخ حاضن للزراعة الناجحة. فكيف ستصمد منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي الأقرب الى المجاعة في الوقت الحالي، بعد أن دمّرت ثلاثةُ مواسم ممطرة محاصيلَها الزراعية!.
وإذا نظرنا الى الشركات العالمية المصدرة للمواد الزراعية في العالم، يظهر في المرتبة الأولى الشركات الأميركية المحتكرة لها، مثل DuPont و Dow، التي تبيع البذور المعدّلة وراثياً بنسبة 60 في المئة. أي إنّ البذور تعطي القمح مرة واحدة، الأمر الذي يُلزم الدولَ بشرائها في كل موسم جديد وبالعملة الأميركية. فماذا تنتظر الدول الفقيرة، مثل لبنان وسريلنكا، التي أعلنت انها غير قادرة على شراء بذور القمح؟.
لم يحترق القمح في لبنان، لأنه أصلاً "ما عنّا قمح". صدَقَ من قال ذات يوم: "ويلٌ لأمّة تأكل ممّا لا تزرع". وإذا فكّرت اليوم الحكومة اللبنانية في زراعة القمح وغيره من الحبوب، فيجب عليها أن تعلم ان الأمر مُكلف بَدءًا من شراء البذور، مروراً بزرعها وتغذيتها بالأسمدة، وصولاً للحاجة الى المياه والكهرباء والنفط لإيصال المحاصيل الى المستهلك. كيف سيصمد اللبناني امام كل هذه التحدّيات العالمية من رأسمالٍ مفقود، ومياه مهدورة في البحر منذ عقود، ورأسمالٍ هارب مع السياسيين الى مصارف الأمان في سويسرا وباناما؟.
منذ أيام اقترح وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب على المجتمع الدولي بحث إمكانية زراعة القمح في سوريا والبقاع. فكرة ذكية ولو متأخرة، ولكن بدل التوجّه الى المجتمع الدولي الذي يعاني بدوره في كل زاوية منه من مصيبة وأزمة، "وما حدا بالو فينا"، يجب التوجه مباشرة الى منظمة الأغذية العالمية للاستحصال على البذور والأسمدة. فهل يُعقل ان نسترضي نصف دول العالم كي يُسمح لنا بزراعة القمح والأغذية الزراعية؟.
أهميّة المياه والقمح اليوم بأهمية النفط، وربما أهمّ منه بعد قليل. فكم من حروب شُنّت عبر التاريخ بسبب الصراع على المياه منذ ظهور الإنسان وعصر البدو؛ وعلى سبيل المثال، لا الحصر، الحروبُ الصليبية في بداية القرن الحادي عشر التي وقَعت عينُها على منطقة الشرق الأوسط نظراً لغناها بالأنهار والمياه المتنوعة. وبعد حروب النفط التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين، يبدو ان العالم يتحضّر اليوم لحرب كبيرة على المياه والقمح، إذا لم يسارع المجتمع الدولي الى امتصاص الأزمة العالمية وتحويلها الى برنامج مساعدات بدون حواجز للدول المحتاجة. ما يهمنا في هذه الأزمة هو خروج لبنان المنهار من هذه الأزمة، رغم انه، بين الدول العربية، من القلائل التي تملك المياه الجوفية بوفرةٍ يُحسد عليها. لكن عندما نرى ان الطقم الحاكم غير قادر على تشكيل حكومة او انتخاب رئيس من دون ان يسترضي نصف دول الكرة الأرضية... قمح رح ناكل!
الأمم المتحدة-نيويورك