ببيانٍ مقتضب من ثلاثة أسطر فقط لا غير، تبنّى "حزب الله" عملية إطلاق ثلاث مسيّرات غير مسلّحة ومن أحجام مختلفة باتجاه المنطقة المتنازع عليها في حقل كاريش، محدّدًا مهامها بـ"الاستطلاعية" لا أكثر، ليخلص إلى أنّ "الرسالة وصلت"، قبل أن يختم بيانه بعبارة توحي بالانتصار: "ما النصر إلا من عند الله العزيز الجبّار".
لكنّ "رسالة" الحزب التي قال إنّها "وصلت"، من دون أن يحدّد المعنيّين بها، سواء في الداخل أو الخارج، أو ربما كلاهما معًا، لم تمرّ من دون "ضجة" في لبنان، ترجمت "انقسامًا" بين مختلف مكوّناته حول قراءة أبعادها، حيث رأى فيها المؤيّدون للحزب "انتصارًا" على إسرائيل، التي استبقت انتهاء المفاوضات لبدء عملية استخراج الغاز دون حسيب أو رقيب.
في المقابل، ثمّة من انتقد عملية "حزب الله"، إما لأنّها بدت بمثابة "رفع عتب" بعد الكثير من الانتقادات التي طالته في الآونة الأخيرة، فجاءت "استطلاعية" لا أكثر، وكأنّما بالحزب يقول "أنا هنا"، وإما لأنّ إسرائيل هي "المستفيدة" منها، بحسب بعض خصوم الحزب، الذين تحفّظوا على "التوقيت غير المناسب" للعملية في ذروة المفاوضات مع العدوّ.
وبين هذا الرأي وذاك، وكما عند كلّ "اشتباك" كلاميّ أو عمليّ مع إسرائيل، تبدأ "سيناريوهات" الحرب المقبلة بالتفاعل إعلاميًّا وسياسيًا، حيث طرحت العملية الكثير من علامات الاستفهام، فهل تفتح "مسار" الحرب التي طال انتظارها في بعض الأوساط؟ هل يتحسّب "حزب الله" لمثل هذا الاحتمال؟ وهل هو سيناريو "واقعي" أساسًا، في الظرف الراهن؟
في المبدأ، يقول العارفون إنّ عملية "حزب الله" كانت مُنتظَرة عاجلاً أم آجلاً، خصوصًا بعد الخطاب الأخير لأمينه العام السيد حسن نصر الله الذي أكّد فيه أنّ "المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نهب ثروات لبنان وكنز لبنان"، وأنّ "كلّ الخيارات مفتوحة ومطروحة أمامها ومن دون تردّد"، متعهّدًا في السياق بـ"منع العدو من المباشرة بنشاط استخراج النفط والغاز من حقل كاريش"، باعتبار أنّ "على العدو أن ينتظر نتيجة المفاوضات".
انطلاقًا من ذلك، يرى هؤلاء أنّ المُستغرَب ليس أن ينفّذ "حزب الله" عملية ما، ولو بالحدّ الأدنى، لإثبات "تأهّبه ويقظته"، ولكن أن يتعامل البعض في لبنان مع العملية وكأنّها "هبطت من السماء"، علمًا أنّ جزءًا غير يسير من هذا البعض نفسه، كان قد استهجن صمت "حزب الله" على التحركات الإسرائيلية منذ وصول السفينة اليونانية إلى المنطقة المتنازع عليها، قبل أن يستعيد اليوم "ثابتة" قرار الحرب والسلم واحتكاره من جانب فريق واحد، بمعزل عن الدولة.
لكنّ الانقسام اللبناني لا يقف عند "حدود" واقع تنفيذ العملية من عدمه، بل يصل إلى "حدود" هذه العملية، معطوفة على "طبيعة" الرسالة التي قال الحزب إنّها وصلت، فضلاً عن التداعيات المحتملة على واقع المفاوضات مع إسرائيل في شأن ترسيم الحدود، ولا سيما أنّ لبنان لا يزال بانتظار الردّ الإسرائيلي الرسميّ على الطرح الذي سبق أن قدّمه، والذي كان يفترض أن ينقله الوسيط الأميركي في الأيام القليلة المقبلة، وفق التقديرات والتوقعات.
استنادًا إلى ذلك، جاء "تحفّظ" الكثير من خصوم "حزب الله" على العملية التي جاءت في توقيت "غير موفّق"، باعتبار أنّ من شأنها "التشويش" على المفاوضات والتأثير سلبًا عليها، وهو ما ترجم بـ"استنفار" الوسيط الأميركي، و"إحراج" المسؤولين اللبنانيين الذين لم يعرفوا كيف يجيبون على استيضاحاته حول العملية، التي لم يكونوا على علم مسبق بها، كما ترجم أيضًا من خلال تهديدات المسؤولين الإسرائيليين، الذين قد يجدونها فرصة للتنصل من المفاوضات.
ويعتبر بعض هؤلاء أنّ عملية "حزب الله" كان يمكن أن تكون مجدية لو جاءت في توقيت مختلف، أو لو جاء الردّ الإسرائيلي سلبيًا، لكنّ الأهمّ أنّها يجب أن تكون "منسّقة" مع الجانب الرسمي، خصوصًا أنّ الحديث عن امتعاض الحزب من موقف لبنان وتخلّيه عن الخط 29، لا يبدو واقعيًا، ولا سيما أنّ القاصي والداني يدرك أنّ موقفًا بهذا الحجم، وفي قضية استراتيجية تخصّ الصراع مع العدو، لا يمكن أن تتمّ من دون موافقته، خصوصًا في عهدٍ محسوب عليه.
في المقابل، وخلافًا لموقف خصوم "الحزب"، يعتبر المتحمّسون للعملية "السلمية" التي نفّذها، أنّ من شأنها "تقوية" الموقف اللبناني بالدرجة الأولى، خصوصًا أنّها جاءت على وقع تسريبات عن "استقواء" إسرائيلي من خلال "تجزئة" الطرح اللبناني لإفراغه من مضمونه، وبالتالي فإنّ العملية جاءت لتذكيره، بشكل عملي، بأنّ المقاومة جاهزة، ويدها على الزناد، للتصدّي للتمادي الإسرائيلي في "مخطط" نهب ثروات لبنان وكنوزه.
يستغرب هؤلاء الضجّة المفتعلة حول عملية "الحزب"، رغم أنّ المسيّرات التي أطلقت لم تكن مسلحة ولا ملغومة، وأنّ مهمتها كانت استطلاعية واقتصرت على الرد، في حين أنّ المسيّرات الإسرائيلية تحلّق بوتيرة يومية في سماء لبنان، من دون أن يتحفّظ أو يعترض أحد، علمًا أنّ المحسوبين على الحزب لا ينفون أن يكون ضمن "أجندة الأهداف" إعطاء العدو صورة عن "قدرات المقاومة" في حال نشوب أيّ صراع في المستقبل.
أما احتمالات الحرب، فيجزم العارفون بأدبيّات "حزب الله"، أنّها موجودة دائمًا، لكنّ العملية الأخيرة "تحدّ منها"، لا العكس، خلافًا لما يتمّ ترويجه، لأنّها تؤكّد "جهوزية المقاومة" من ناحية، وتذكّر العدو بعناصر "قوتها"، علمًا أنّ مقوّمات هذه العملية بحدّ ذاتها لا يمكن أن تقود إلى "حرب" لا يريدها أحد في الوقت الحالي، ولو أنّها تترك المجال مفتوحًا لـ"اشتباك ما" تبعًا لطريقة تلقّف العدو للرسالة، وهنا بيت القصيد برأي هؤلاء.
لا إجماع إذًا على "الرسالة" الكامنة خلف عملية "حزب الله"، وسط حسابات داخلية وإقليمية ودولية تتقاطع برأي كثيرين، لكنّ الأكيد أنّ احتمال الحرب لا يزال مستبعَدًا، حتى إشعار آخر بالحدّ الأدنى، إشعار قد تؤشّر إليه نتيجة مفاوضات ترسيم الحدود، التي حدّد وزير الخارجية عبد الله بو حبيب مهلتها بشهرين كأقصى تقدير، والتي قد يكون "أول غيثها" الردّ الإسرائيلي على الطرح اللبناني في غضون أيام قليلة...