أعلنت منظمة "اليونيسيف" في تقرير نشرته في تشرين الثاني 2021 حول "تفاقم تأثيرات الأزمة اللبنانية على الأطفال"، أنها أجرت تقييمًا يركّز على الطفل؛ وقد أظهرت النتائج أنّ 3 من بين كل 10 أسر خفّضت نفقات التعليم، مشيرةً إلى أنّ "الأزمة العميقة في لبنان تهدّد حقّ الأطفال الأكثر ضعفًا في التعليم"، ومتوقعةً ألا يعود 63% (أي ما يشكّل 440 ألفًا) من الأطفال اللاجئين، و23% (أي ما يشكّل 260 ألفًا) من الأطفال اللبنانيين، الذين هم في سن الدراسة، إلى المدرسة.
وفي حين يُعتبر التعليم الركيزة الأولى في بناء المجتمعات، وحيث أنّ لكل طفل الحقّ بأن يحصل على التعليم الأساسي الذي يعزّز نموَّه وتطوير مهاراته وقدراته الفكرية والعاطفية والاجتماعية، وأمام هذه الأرقام، يبدو جليًا أنه لم يعد باستطاعة الأسر الأكثر ضعفًا تحمّل النفقات الأساسية للتعليم، ومن بينها طبعًا تكلفة الذهاب والإياب إلى ومن المدرسة. كما أصبح من الواجب دقّ ناقوس الخطر، لأنّ التسرّب المدرسي يؤسّس لجيل ضائع ومعرّض لكل أنواع الآفات.
ارتفاع كلفة التعليم
لمعالجة أي مشكلة، يجب أوّلًا الإحاطة بكافة جوانبها. وبالنظر إلى التسرّب المدرسي، لا بدّ من الوصول إلى أرقام محدّدة. فبحسب المعطيات، تدير وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان نظام "إدارة المعلومات المدرسية" الذي يمكنه تتبع الحضور اليومي لكل طالب. ولكن حتى الآن، لم يتمّ نشر أي بيانات عن تسجيل الطلاب وحضورهم وتسرّبهم من الدراسة.
وفي هذا الإطار، أسف مقرّر لجنة التربية النيابية النائب إدغار طرابلسي، "لأنه حتى الآن ليس لدينا أرقام حول أعداد المتسرّبين من المدارس"، مشيرًا إلى أنه "في الاجتماع الأوّل للجنة التربية النيابية بتاريخ 20 حزيران الماضي، قمنا بتحديد الخطوط العريضة والخطوات العتيدة التي سنقوم بها، وطالبنا أوّلًا بالحصول على أرقام من وزارة التربية والتعليم العالي تحدّد عدد الطلاب في القطاعين الخاص والرسمي وعدد المتسرّبين من التعليم".
وفي حين تُعتبر كلفة التعليم المرتفعة سببًا رئيسيًا في التسرّب المدرسي، أشار طرابلسي إلى أنّ "الأهالي وصلوا إلى حائط مسدود مع تسلّط بعض أصحاب المدارس وفرضهم أقساط غير معقولة بالدولار الأميركي والليرة اللبنانية"، معتبرًا أنّ "هذه المدارس لا تحترم روحيّة ونص القانون 515 الذي يفرض الشراكة والشفافية بين إدارات المدارس والأهل في وضع الموازنات المدرسية وتحديد الأقساط، الأمر الذي سيؤدّي إلى تسرّب عدد كبير من الطلاب، أو إلى هجرة البعض من التعليم الخاص إلى الرسمي"، داعيًا المدارس إلى التعقل، والأهل إلى التفهّم والمشاركة الفاعلة وفق الدور الذي ينصّ عليه القانون.
وحول دور وزارة التربية بموضوع الأقساط، رأى طرابلسي أنّ "الوزارة أخفقت ولم تقم بدورها في هذا المجال، وقد دعوت في وقت سابق إلى اعتماد التدقيق المالي الخارجي وتمّ رفض الموضوع من قبل اتحاد مؤسّسات التعليم الخاص. وأنا كنائب في البرلمان وعضو في لجنة التربية النيابية، ملتزم بالضغط وتقديم الاقتراح الذي يلزم المدارس بالشراكة مع لجان الأهل في وضع الموازنة وتحديد الأقساط، بالإضافة إلى التعاقد مع شركة تدقيق محاسبي خارجي".
دور الوزارات المعنية
نظرًا للخطر الذي يشكّله هذا الواقع على المدرسة وعلى التعليم الرسمي بشكل خاص، وضعت وزارة التربية بالتعاون مع المركز التربوي للبحوث والإنماء، خطة تعاف تربوية وتعليمية للعام الدراسي 2021-2022، وشملت مرحلة التعليم الأساسي بحلقاتها الثلاث وكذلك المرحلة الثانوية.
وبحسب المركز التربوي للبحوث والإنماء، تضمّن برنامج التعافي أنشطة كفايات التعلّم الاجتماعي الانفعالي، وبرنامج التعافي للمواد الإجرائية، كذلك تمّ تكييف المناهج من خلال تعديل المواضيع والأهداف التعليمية التعلّمية بناءً على التعميم رقم 13/م/2021 تاريخ 23/8/2021 المتعلّق بتحديد الأهداف التعليمية للمواد التعليمية. كما تمّ إعداد برنامج للتعافي في مواد اللغات والرياضيات بالتنسيق مع "مشروع كتابي"، وقد شملت خطة التعافي برنامج تدريب المعلمين، بهدف إعادة الاستقرار إلى البيئة المدرسية وإعادة النظر في وضع المعلم أوّلًا وآخرًا، لأنه عماد العملية التعليمية التعلّمية وسبب نهوضها واستقرارها.
كما تُعتبر وزارة الشؤون الاجتماعية شريكة في الحدّ من التسرّب المدرسي، حيث تؤمّن نفقات التعليم بشكل شبه مجاني لحوالي 35 ألف تلميذ في المدارس الرسمية والخاصة والمهنية.
إلّا أنّ هذه الأرقام انخفضت مع تفاقم الأزمات في لبنان في الأعوام الماضية. ففي بعض المدارس الخاصة التي تغطّي الوزارة حوالي 70% من قسطها المدرسي، وجد بعض الأهالي أنفسهم عاجزين عن دفع القسم المتبقّي، بالإضافة إلى كلفة النقل المرتفعة.
التوعية ودور الجمعيّات
رغم وجود العديد من المعوّقات التي تحول دون وصول عدد كبير من الأطفال إلى التعليم، ومنها اضطرار البعض للعمل لمساعدة عائلاتهم، يبقى للتوعية، كما في معظم المشاكل الاجتماعية، دور كبير في الحدّ من ظاهرة التسرّب المدرسي وانعكاسها السلبي على مستقبل الأطفال. وبالتالي، لا بدّ من نشر الوعي بين الأهل ومساعدتهم على إيجاد طرق بديلة عن عمل أطفالهم لتأمين مداخيل للمنزل، لأنّ التعليم في الصغر يفتح آفاقًا في المستقبل، تستفيد منها العائلة بأكملها.
وفي ظل الواقع المتأزم في لبنان، يبرز دور الجمعيّات في التوعية من مخاطر هذه الظاهرة. وفي هذا الإطار، حذرت جمعيّة "Save the children" من الآثار الخطيرة على تنمية رأس المال البشري والنمو الاقتصادي نتيجة أزمة التعليم في لبنان، مطالبةً الحكومة اللبنانية ومجتمع المانحين الدولي بالمساعدة لتخفيف العبء الاقتصادي على الأطفال والمعلمين والمدارس، مؤكدةً أنّ "التعليم أمر بالغ الأهمية يساعد على الاندماج الاجتماعي والتنمية، ويساهم بحماية الأطفال من الفقر والعنف وسوء المعاملة، وهذا الحقّ لا ينتهي في أوقات الأزمات".
وفي سياق متصل، يشكّل المجلس الأعلى للطفولة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية إطارًا وطنيًا لتكامل القطاعين الرسمي والأهلي لرعاية وإنماء الطفولة بما يتوافق والاتفاقيات الدولية، وخصوصًا اتفاقية حقوق الطفل بالتعاون مع المنظمات الدولية المتخصّصة.
ويهتم المجلس باقتراح وتخطيط السياسة العامة في مجال الطفولة بالتعاون مع المنظمات الدولية المتخصّصة، بالإضافة إلى وضع خطة لنشر مبادئ اتفاقية حقوق الطفل وتعميمها تربويًا وإعلاميًا وإعلانيًا وإثارة الوعي حول القضايا المتعلقة بالطفولة.
"فتيات متمكّنات"... للحدّ من التسرّب المدرسي
يُعتبر التعليم عنصرًا أساسيًا للمساهمة في التمكين الذاتي والمعنوي لتتمكّن الفتيات من مواجهة أيّ شكل من أشكال العنف؛ وفي هذا الإطار أطلقت "الهيئة الوطنية لشؤون المرأة" مشروع "فتيات متمكّنات وقادرات: التعليم للجميع" بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي وبالشراكة مع اليونيسف، حيث تضمّن جولات على 13 مدرسة رسمية في مختلف المحافظات اللبنانية واستهدف 3 آلاف طالبة من خلال حلقات توعوية.
وهنا، أشارت المديرة التنفيذية في "الهيئة الوطنية لشؤون المرأة" ميشلين مسعد، إلى "أننا قمنا خلال الجولات بالتركيز على ظاهرة التسرّب المدرسي في ظل الأوضاع المعيشية والصحية والاقتصادية التي نعيشها، وضرورة تمكين الفتيات علميًا ومعنويًا، وأن يكون لديهنّ استقلالية مادية لمواجهة الصعوبات والتحدّيات".
ولفتت مسعد إلى أنّ "الجولات تمّت برفقة مرشدات من وزارة التربية ضمن المناطق، وكان هناك متابعة لكافة الحالات التي تمّ رصدها ضمن الحملة"، موضحةً أنّ "من أهداف المشروع الحؤول دون التسرّب المدرسي والتزويج المبكر للمراهقات وحماية الفتيات من جميع أشكال العنف".
وبيّنت مسعد أنّ "الجولات التي قمنا بها تهدف إلى التوعية حول أهمية التعليم وحقّ الفتيات بالحصول عليه، بالإضافة إلى الإضاءة على مساوئ الزواج المكبر الذي يشكل سببًا من أسباب التسرّب المدرسي"، كاشفةً أنّ "من التوصيات التي خرجنا بها، استكمال المشروع مع انطلاق العام الدراسي الجديد من خلال جلسات تستهدف الأهل والطلاب على حدّ سواء، كما لمسنا طلبًا من الفتيات في هذا المجال في ظل وجود فجوة بين الجيل الحالي والأهالي".
وأوضحت مسعد أنّ "عملنا كهيئة وطنية يتركّز على التوعية والحث على إقرار القوانين التي تحمي هذه الفئات، كإقرار قانون يمنع تزويج الأطفال، ممّا يساهم بالحدّ من التسرّب المدرسي"، مشدّدةً على أهمية دور وزارة التربية بالحدّ من التسرّب المدرسي، "فهي الملجأ الأوّل للطلاب".
كما ذكّرت "بالخط الساخن الذي استحدثته الوزارة وهو مخصّص لكل الشكاوى المتعلّقة بالمدرسة من خلال التواصل مع مختصّين"، مضيفةً: "من هنا كانت دعوتنا للطالبات، خلال جولاتنا على المدارس، باللجوء للخط الساخن في حال تعرّضن لأي شكل من أشكال العنف".
وفي الختام، يُعتبر قطاع التعليم في لبنان واحدًا من أكثر القطاعات تأثرًا بالأزمات التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. وبالرغم من الظروف الصعبة، لا يجوز أن يكون تأمين التعليم أقل أهمية من تأمين الغذاء والاستشفاء، وبالتالي لا بدّ على جميع المعنيين وضع التعليم في رأس الأولويات لمساعدة فئات واسعة من اللبنانيين والمقيمين، والتي باتت غير قادرة على الحصول على التعليم، فأصبحت بالتالي، لا فقط محرومة من أحد الحقوق الأساسية المنصوص عنها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل مهدّدة بمجموعة من المخاطر الناتجة عن خسارتها حقّها بالتعليم: سوء المعاملة المعنوية والجسدية؛ التحرش الجنسي والاغتصاب...
إنّ التسرّب المدرسي يؤسّس لأجيال معرّضة لكل أنواع الآفات، من المخدرات إلى العنف وجرائم السرقة والقتل... بل لمجتمع مفكّك ومتهالك.
في حال الحاجة للتواصل مع المرشدات في وزارة التربية، الاتصال على الخط الساخن: 01772000
رقم الخط الساخن الخاص ب"جمعية انقاذ الطفل": 01281865
للتواصل مع المجلس الأعلى للطفولة ومع منسّقة ملف التربية السيدة كاتيا الحداد الاتصال على الرقم 0188107.