غريب أمر المسؤولين الدوليين حين يتعلق الامر بلبنان، فتراهم ينقطعون فجأة عن المنطق والعقلانية ويركبون موجة تمرير الوقت والاستخفاف باللبنانيين، ويبنون قصوراً من احلام ومشاريع في الهواء سرعان ما تتلاشى مع هبوب رياح الواقع.
في هذا السياق، يمكن قراءة المواقف الاخيرة للسفيرة الفرنسيّة في لبنان آن غريو والتي شدّدت فيها على وجوب انتخاب رئيس جديد للجمهورية في المواعيد الدستوريّة المحددة، ايّ تفادي الفراغ، وذهبت ابعد من ذلك حين اكدت ان الرئيس المقبل يحمل الخلاص للبنان بمجرد ان يُسمع صوت لبنان في المحافل الدولية.
تضحك غريو على اللبنانيين بدبلوماسيّة، لانها تعلم تماماً انه لا يمكن لرئيس جمهورية اياً كان اسمه ومكانته ورغبته، في تغيير أي شيء في لبنان، وليتفضل من يعارض هذا الرأي ويدلّنا على رئيس (قبل الطائف على رغم كل صلاحياته، وبعده) استطاع تغيير مسار تمّ رسمه ووضعه في الخارج وتطبيقه في البلد. من ذا الذي يصدّق ان الرئيس المقبل للجمهورية سيجترح العجائب؟ وفي الاصل، من يأتي بالرئيس اللبناني؟ اليس الاتفاق الاقليمي-الدولي؟ هل تستطيع السفيرة الفرنسيّة ان تنكر ضلوع بلادها الى جانب دول غربية وعربية في ايصال لبنان الى ما هو عليه اليوم، بمشاركة ومباركة من شريحة كبيرة من اللبنانيين؟.
قبل تشكيل حكومة تصريف الاعمال الحاليّة، كانت الحملات كلها تركّز على اعتبار ان تشكيل الحكومة هو خلاص لبنان، وقبل الانتخابات النيابية الاخيرة، تم تصويرها على انها مفتاح الانقاذ الذي ينتظره اللبنانيون، واليوم على ابواب الانتخابات الرئاسيّة، ها هو هذا المنصب يتحوّل الى مصدر التغيير الذي يحتاجه لبنان! لم تكن غريو موفقة في "التبرؤ" من رئيس الجمهوريّة الحالي ميشال عون والتلميح الى اهمّية التغيير الذي يحصل في العالم، بعد ان اعيد انتخاب رئيسها ايمانويل ماكرون لولاية ثانية (علماً انها حاولت التبرير بأنه اتى بأسلوب جديد؟!)، فمن الطبيعي ان يكون الرئيس المقبل للبنان جديدا، ولكن ما التغيير الذي سيأتي به اذا كان سيبقى محاطاً بعوائق اقليمية ودولية وداخلية وطائفية ومذهبية؟ ما الذي فعله الرؤساء اميل لحود وميشال سليمان وميشال عون؟ هل تشاركوا كلهم المواقف والرؤى نفسها؟ بالطبع لا، ولكن مصيرهم كان نفسه تقريباً اذ وصلوا بالتهليل والترحاب وانهوا ولاياتهم بأكبر قدر من الضعف، وهو ما ستؤول اليه احوال الرئيس المقبل بكل تأكيد.
حقيقة واضحة حملتها مواقف غريو الاخيرة، وهي ان فرنسا لم تترك الساحة اللبنانية، وانها لاعب اساسي مع الاميركيين وبعض الدول الاقليمية والدولية، وهي التي ترسم مع هذه الدول الطريق الذي يسير عليه البلد، والوقت اليوم هو لتمرير "الستاتيكو" القائم حتى اشعار آخر، من دون ان ننسى انضمامها الى جوقة المتفائلين بقرب التوصل الى ترسيم الحدود البحرية. يشبه حال لبنان، حال سائق سيارة ضلّ طريقه ويعتمد على جهاز تحديد المواقع GPS الذي يأخذه حيث يشاء واعداً اياه بايصاله الى هدفه، ولكن في كثير من الاحيان يجد السائق نفسه في مكان آخر، والمفارقة انه غالباً ما يلوم نفسه وليس GPS على هذه المشكلة.
ليس انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الحل، وليس تشكيل حكومة جديدة هو الحل، وليس اجراء الانتخابات النيابية هو الحل، انما الحل يكمن في توافق دولي واقليمي على انهاء مسلسل الازمات في لبنان، فتصطفّ الدول من جديد لمساعدة هذا البلد ويعود اهله الى التجانسمع بعضهم البعض (بسحر ساحر)، وتصطلح الامور الاداريّة والسّياسية والماليّة والاقتصاديّة، والا سنبقى ندور في حلقة مقفلة لوقت لا يعلم احد مدّته.