قبل أن يبدأ البحث "الجدّي" بأسماء المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، الذين يتوقّع أن يتصدّرهم رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، الذي يستعدّ وفقًا لبعض التسريبات لجولة على مختلف الأفرقاء مطلع الشهر المقبل، فاجأ رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الجميع بإعلانه "انفتاحه" على ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون للمنصب.
صحيح أنّ جعجع ربط "انفتاحه" على قائد الجيش بمدى "الحظوظ" التي يمتلكها الأخير، والتي "تمنى" أن تكون جيّدة، إلا أنّ حديثه هذا أثار استغراب الكثيرين، ولا سيما أنّ التوقعات كانت تشير إلى أنّ جعجع "يرغب" في ترشيح نفسه باسم قوى المعارضة، ولا سيما أنّ المحسوبين عليه والمقرّبين منه صنّفوه على أنّه "مرشح طبيعي" لرئاسة الجمهورية.
لكنّ رئيس حزب "القوات" الذي أكّد أنّ أمر ترشيحه، المتروك لوجستيًا وتنظيميًا لتكتل "الجمهورية القوية" الذي ينبغي أن يحسمه في الأيام المقبلة، أراد "الإيحاء" ربما بأنّه ليس متمسّكًا بالترشّح على المستوى الشخصي، بقدر ما يرغب في التوصّل إلى "مرشح موحّد" تتّفق عليه قوى المعارضة، إذا ما كان "مطابقًا للمواصفات" التي تضعها "القوات".
إلا أنّ ذلك لم يحجب الضوء عن الكثير من علامات الاستفهام التي أثارها كلام جعجع الأخير، فهل طرحه ترشيح قائد الجيش "جدّي" فعلاً، أم أنّه "مناورة" قد يكون الهدف الفعليّ من ورائها "حرق اسم" الرجل في "بازار" الرئاسة؟ وهل يمتلك العماد جوزيف عون فرصًا جدية، لا للوصول إلى بعبدا فحسب، ولكن ليحصد دعم قوى المعارضة مجتمعةً كما أوحى "الحكيم"؟.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ طرح جعجع اسم قائد الجيش لم يكن على الأرجح "منسَّقًا" مع سائر قوى المعارضة، التي قال للمفارقة في الحديث نفسه إنّ "الاتصالات" معها قد بدأت من أجل الاتفاق على مقاربة موحّدة للاستحقاق الرئاسي، ولذلك فهم يعتقدون أنّ جعجع أراد من خلاله على الأرجح "جسّ نبض" الأطراف الأخرى، ولكن قبل ذلك، تأكيد "انفتاحه" على خيارات من خارج عباءة "القوات" في المقام الأول.
من هنا، يستبعد المتابعون "جدية" طرح رئيس حزب "القوات"، ولا سيما أنّ وقت طرح الأسماء "الجدية" لم يَحِن بعد، وقد أثبتت التجارب أنّ "ساعة الحقيقة" الرئاسية لا تحلّ إلا في ربع الساعة الأخير، علمًا أنّ الظروف المحيطة بموعد الاستحقاق تلعب دورًا أساسيًا في تحديد هوية "الأوفر حظًا" لدخول قصر بعبدا، وثمّة من يعتقد أنّ هذه الظروف قابلة لتغيّرات قد تكون "دراماتيكية" خلال الأسابيع القليلة المقبلة، الفاصلة عن موعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
ولعلّ ما يُبعِد أيضًا فرضية "الجدية" انّ عقبات عدّة، دستورية وغير دستورية، من شأنها "قطع الطريق" أمام وصول قائد الجيش، وهو الذي يتطلب وصوله إلى قصر بعبدا تعديلاً دستورياً، ولو أنّ بعض "الاجتهادات" تفتي بإمكانية القفز فوق ذلك، استنادًا إلى "سابقة" انتخاب ميشال سليمان، علمًا أنّ مثل هذا التعديل الدستوري يبدو، أقلّه في الوقت الحالي، بعيد المنال، طالما أنّ "لا توافق" على انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية، من قبل ثلثي البرلمان بالحدّ الأدنى.
أما النقطة "الحاسمة" في إبعاد فرضية "الجدية" فقد تكون في غياب "التوافق" حتى بين قوى المعارضة على خيار قائد الجيش، فباستثناء كلام رئيس حزب "القوات"، لم يُرصَد أيّ "انفتاح" بين هذه القوى على اسم قائد الجيش، فأوساط "الحزب التقدمي الاشتراكي" قالت إنّ البحث بالأسماء متروك لمرحلة لاحقة، في حين أنّ المقرّبين من "الكتائب" استبعدوا سير الحزب بمثل هذا الطرح، رغم كلّ "التقدير" لقائد الجيش، ولكن في الموقع الذي يلعبه، وليس خارجه.
وقد لا يكون خافيًا على أحد أنّ نواب "التغيير" مثلاً، المشتّتين والمنقسمين على أنفسهم، لا يمكن أن يسيروا بالإجماع في خيار دعم قائد الجيش، ولا سيّما أنّ بينهم من يأتي من تجارب "نضالية" في المجتمع المدني، وأنّهم وصلوا إلى البرلمان باسم "ثورة 17 تشرين"، وتحت شعار "التغيير"، وبالتالي فهم لا يمكن أن يكونوا من دعاة الإتيان بعسكري رئيسًا للجمهورية مرّة أخرى، فضلاً عن أنّهم لا يستسيغون "تعديلاً دستوريًا"، لتفصيله على قياس شخص واحد.
وبعيدًا عن موقف قوى المعارضة نفسها، ثمّة من يسأل عمّا إذا كان قائد الجيش نفسه يرتضي أن يكون مرشحًا لفريق في مواجهة فريق آخر، ولا سيما أنّ كلّ قادة الجيش الذين انتُخبوا رؤساء في السابق، أتوا بصفة "منقذين"، وكمرشحين "توافقيين"، وهو ما يدفع فعلاً إلى التساؤل عمّا إذا كان جعجع أراد أن "يخدم" قائد الجيش بكلامه، أم "حرق اسمه"، عبر تكريسه مرشحًا محسوبًا على فريق في مواجهة آخر؟.
يقول العارفون إنّ قائد الجيش لا يمكن أن يأتي رئيسًا للجمهورية عمليًا، إلا بموجب "تسوية سياسية"، تمامًا كما كان يحصل في السابق، ومثل هذه "التسوية" لا يزال الوقت مبكرًا عليها، وهناك من يعتبر أنّ النقاش بها متروك لما بعد 31 تشرين الأول المقبل، وليس قبل ذلك، علمًا أنّ ما يُحكى عن "فيتو" يفرضه "حزب الله" عليه، بسبب علاقاته مع الولايات المتحدة أو غيرها، ليس دقيقًا، وإن كانت "الحسابات" كثيرة في هذا الإطار.
لكلّ ما تقدّم، لا يبدو طرح جعجع "جديًا"، ولو كان كذلك، لبُحِث ونوقش مع قوى المعارضة في المقام الأول، أو بالحدّ الأدنى مع القوى "المنظّمة" على الضفة المعارضة، مثل "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب الكتائب"، وهو ما لم يحصل، إلا إذا كانت الغاية المنشودة من الطرح مجرد "الزكزكة" كما قال البعض، وتوجيه الرسائل، التي قد يكون رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل معنيًا بها قبل غيره، وهنا بيت القصيد!.