أشار مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في رسالة إلى اللبنانيين بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة، إلى أن "مَعنَى الهِجرَة تغيَّرَ، وَتَغيَّرَتْ ظُرُوفُها. صَحِيحٌ أنَّ اللبنانيين يُهاجِرُون مُنذُ أَكثَرَ مِنْ مِائةٍ وَخمسِينَ عَاماً، وفي ظروفٍ أَكْثرُها اقتصادِيٌّ وَمَعِيشِيّ. لكنَّ هِجْرَاتِ العَقدِ الأَخِيرِ الكَثِيفَةَ وَالمُسْتَمِرَّة، غيرُ طَبِيعِيَّة، لأنَّهَا هَرَبٌ مِنَ الحَاجَةِ وَالجُوع، بَعدَ الانْهِيَاِرِ الكَبِيرِ في سَائرِ مَناحِي الحياة. لبنانُ الجامعات، ولبنانُ المستشفيات، ولبنانُ العَيشِ الرَّغِد، ولبنانُ النُّورُ وَالتَّنوِير؛ كُلُّ ذَلكَ تَضَاءَلَ إلى دَرَجَةِ الاخْتِفَاءِ والعَدَم".
ورأى أن "اللبنانيين بل والسُّوريُّين، وَقَبلَهُمُ الفِلسطينيين، فإنَّهُم يَهرُبُونَ مِنَ العَوَزِ والجُوع، وليسَ لَهُمْ مَشروعٌ إلاّ رَجَاءَ البَقَاءِ على قَيدِ الحَياة. ونحن نعلمُ أنَّ المِئاتِ بَلِ الآلافُ مِنْهُم تَطوِيهِمْ غَيَاهِبُ البِحَار. فَهَلِ اختلافُ المَصائرِ عِلَّتُهُ افْتِقَادُ المَشرُوع؟ أو أنَّ اللبنانيين لم يُناضِلوا كَمَا نَاضَلَ الرَّسُولُ صلى اللهُ عليه وسلمَ وأصحابُه طَوالَ مَا يَزِيدُ على القَرْن، كانَ المُهاجرون اللبنانيون يَمْتَلِكُونَ مَشارِيعَ فَردِيَّةً أو جَمَاعِيَّة. أمَّا اليوم، فإنَّ المَشارِيعَ انْعَدَمَت، وَطَرَدَتْهُمُ الفئاتُ الحَاكِمَةُ - مُسلَّحَةً أو غَيرَ مسلَّحةٍ - مِنْ دِيارِهم. وبعضُ الفئاتِ الحَاكِمَةِ والمُتحَكِّمَةِ عِندَنَا يتصرفون بفُجُورٍ أَسوَأُ مِنْ فُجُورِ كُفَّارِ قُريش، فأولئكَ اخْتَلَفُوا مَعَ المُسلِمِينَ الأوائلِ على الفِكرَة، أمَّا بعضُ المُتَنَفِّذِين عِندَنا فقدِ اتَّفَقُوا على تَدمِيرِ حَياتِنَا، وَجَعلِهَا مُستَحِيلةً، بِحيثُ صِرْنَا مُخيَّرِينَ بَينَ خِيَارَينِ أحْلاهُما مُرّ: المَوتُ قَتلاً في أَوطَانِنا، أَوِ الفَنَاءُ خَارِجَ تلكَ الأوطان، وَحيثُ تَفقِدُ الحَياةُ مَعنَاهَا الإنسانَيّ".
ولفت دريان، إلى أن "الوَطَن عزيز، ونحن اللبنانيين مَضرُوبٌ بِنا المَثَلُ في حُبِّ الوَطَن، لكنَّ المَكَارَةَ التي نَشَرَها المُتحَكِّمُون، جَعَلتْ مِنَ العَيشِ في الوَطَنِ قِطعَةً مِنَ العَذَاب. هناكَ مُطارَدَةٌ في الليلِ والنَّهَار، وَإطباقٌ على جَعلِ العَيشِ مُستحِيلاً. ومَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الأشِقّاءِ وَالأصدقاء، وَمِنَ المُؤَسَّسَاتِ الدَّولِيَّة، إلَّا وَنَصَحَ بِالتَّغيِيرِ وَالإصلاح. وَاعْتَقَدَ شَبَابُنَا أنَّ الحلَّ في الانتخابات. لكنَّ التَّغيِيرَ الذي جَلَبَتْهُ الانتخاباتُ ضَئيلٌ وَفَاقِدٌ في كَثيرٍ مِنْ وُجُوهِهِ لِلمَعْنَى. الوُجُوهُ هي الوُجُوه، والتَّصَرُّفاتُ هي التَّصَرُّفات".
وذكر أن "الصَّرَخَاتُ عَلَتِ فقط، وَمَا تَزَالُ السُّلُطَات، وَمَا تَزَالُ البُنُوكُ على سَطْوَتِها وَعَلى قَسوَتِها على المُوَاطِنِين، مُعظَمِ المُوَاطِنين. وَظُرُوفُ التأزُّمِ تُخرِجُ مِنَ النَّاسِ أَسْوَأُ مَا في غَرائزِهِم. تَصَوَّرُوا ونحن على هذه الحَالَةِ مِنِ انْعِدَامِ الأَمْنِ وَالأَمَان، وَالحَيَاةِ الكَرِيمَة، أَنْ تَأْتِيَ الدَّعوَةُ إلى تَقْسِيمِ بَلدِيَّةِ بَيرُوت. أَلا يَكْفِينَا مَا نَحنُ فيه مِنْ طَائفيةٍ بَغِيضَةٍ، وَشَرذَمَةٍ لا حُدُودَ لها، واقتراحاتِ مَخَارِجَ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلطَان، حتى نَصِلَ إلى الدِّفَاعِ عِنْ بَقايَا العَيشِ المُشتَرَك، والجِوَارِ الآمِن، وإنسانِيَّةِ الإنسان؟!".
واعتبر دريان، أن "تَشكِيلُ حُكومَةٍ عَامِلَةٍ مَا يَزَالُ مُتَعذِّراً كَالعَادَةِ، مع أنَّ المَطْلوبَ والمُلِحّ هو تشكيلُ حكومةٍ فاعلةٍ بأسرعِ وقتٍ ممكنٍ لتداركِ الانهياراتِ الكارثيةِ التي يعاني منها المواطنون والوطن. والمطلوبُ أيضاً التقيد بالمهل الدستورية لإنجاز الاستحقاقاتِ المقبلةِ في مواعيدها ومن أهمها انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية يكون على قدْرِ آمالِ وتطلعاتِ اللبنانيين، أمَّا عن المَرَافِقِ التي مِنَ المَفرُوضِ أنْ تَخْدُمَ المُواطِنِين، فَكُلُّها مُفَكَّكَةٌ أو مُتَعَطِّلة. وَيَقولُ لنا فلان: إنَّ الآخَرِينَ مَنَعُوهُ مِنَ الإصلاح. فَمَنِ الذي مَنَعَ مِنْ إِصلاحِ الكَهرَبَاء، وَخَرَّبَ القَضَاء، وَأَغَارَ على البَنْكِ المَركَزِيّ، وَتَنَبَّهَ فَجْأَةً إلى أنَّ هناكَ مَنْ يُخالِفُ القانون؟ وهذا الخَرَابُ المُتَعَمَّدُ كُلُّه، وَمَعَ ذلك، هُنَاكَ الشَّكْوَى مِنْ ضَآلةِ الصَّلاحِيَّات! الصَّلاحِيَّاتُ مُطلقَة، لكنَّهَا دَائماً لِلتَّخريبِ وليسَ لِلبِنَاء".
وأكد أن "دارُ الفَتوَى حَرِيصَةٌ على القِيَمِ الدِّينِيَّةِ المُمَثَّلَةِ بِمُؤَسَّسَاتِهَا وَرِجَالِهَا مِنَ المُسلِمِينَ وَالمَسِيحِيِّين، الذين هُمُ الدِّرْعُ الوَاقِي لِتَعزِيزِ مَكارِمِ الأخْلاقِ وَالتَّسَامُح، وَالرَّحْمَةِ وَالمَحَبَّة، التي لا يُمْكِنُ لِهذِهِ القِيَمِ أنْ تَجْنَحَ نَحوَ عَدُوِّ الأَرضِ وَالعَقِيدَةِ وَالمُقَدَّسَات".
أمَّا بِالنِّسْبَةِ إلى تَرسِيمِ الحُدُودِ البَحرِيَّة، شدد دريان على أنها "حاجَةٌ وَطَنِيَّة، وَتَوقِيعُ الاتِّفَاقِ يُعطِي الأَمَلَ بِمُستَقبَلِ لبنان، الدَّولَةُ هِيَ صَاحِبَةُ القَرَارِ في مُفَاوَضَاتِ التَّرسِيمِ بِخُبَرَائها ومُخْتَصِّيَها، وَهِيَ المَسؤُولَةُ الوَحِيدَةُ عَنِ الوَطَن، بِالتَّوَصُّلِ إلى تَحقِيقِ مَطَالِبِها وَمَصَالِحِها الوَطَنِيَّة، وهذا الأَمْرُ يَتَطَلَّبُ الكَثِيرَ مِنَ الحِكمَةِ وَالدِّرَايَةِ وَالطُّرُقِ الدِّبْلوماسِيَّة، وَلا غَيرَ ذَلك، وَلْيَكُنْ مَعلوماً إذا حَصَلَ تَرسِيمُ حُدُودِنَا البَحرِيَّة، وَتَمَّ الاتفاق، فهذا هو حَقُّ لبنانَ الطَّبِيعِيُّ في ثَرَوَاتِهِ البَحرِيَّةِ مِنَ العَدُوِّ الإسرائيليِّ المُحتَلِّ لِأرضِ فِلَسطِينَ وَمِيَاهِهَا، وهذا يَتَطَلَّبُ مِنَّا الوُقُوفَ بِحَزْمٍ حَولَ القَضِيَّةِ الفِلسطِينِيَّة، والسَّعْيَ عَرَبِيّاً وَدَولِيّاً لإقامَةِ الدَّولةِ الفِلسطِينِيَّةِ المُستَقِلَّة، وَعَاصِمَتُهَا القُدْسُ الشَّرِيف".
وأردف المفتي دريان، أنه "لْيَعْلَمِ القَاصِي وَالدَّانِي أَنَّ لبنانَ كَانَ وَسَيبْقَى، بِعُمْقِهِ وأُمَّتِهِ العَرَبِيَّة، وَتَعَاوُنِهِ مَعَ أشِقَّائهِ العَرَب، مِنْ خِلالِ التِزَامِهِ قرَارَاتِ جَامِعَةِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّة، التي أَكَّدَتْ أنَّ لبنانَ دَولَةٌ عَرَبِيَّةٌ حُرَّةٌ مُستَقِلَّة، وهذا يَدْفَعُنا لنُؤكِّدَ أنَّ عَيشَنَا الوَاحِدَ يكونُ بِوَحْدَتِنَا الوَطَنِيَّة، لِيَبْقَى لبنانُ بِتَنَوُّعِهِ الإسلامِيِّ المَسِيحِيّ، نَمُوذَجاً حَضَارِيّاً في هذا الشَّرقِ العَرَبِيّ، الذي يَئِنُّ مِنَ الأَزَمَاتِ المُتَلاحِقَة، بِسَبَبِ الاحتلالِ الصُّهْيُونِيِّ لأرضِ فِلَسطِينَ المُبَارَكَة".