لَيسَ لبنانُ ذاكَ الذي يَتَعَبَّدُ لِنَفسِهِ بِقَلَقِ الأنا الذي يَرى في ذاتِهِ مَرجِعَ الوجودِ وَجَوهَرِهِ. هذا الإنكِفاءُ الى ظواهِرَ التَعَظُّمِ والإستِكبارِ وَطُغيانِهِما لَيسَ لبنان. حَسبُهُ، لبنانُ، تَحطيمَ أغلالِ الأنا المُقفُلُةِ، كما تَحَطَّمَتِ أبوابُ الجَحيمِ لَمَّا إنحَدَرِ إليهِ القائِمُ مِنَ المَوتِ، فَحَرَّرَ بِهِ جَميعَ الراقِدينَ في ظُلُماتِهِ، القابِعينَ في ظِلالِهِ، رافِعاً إيَّاهُم الى فَيضِ النورِ الذي لا مَوتَ فيهِ وَبَعدَهُ.
لبنانُ يَطلُبُ ذاتَهُ فَيَسكِنَ إلَيها. وَذاتُهُ أيقونَةُ الخالِقِ الذي خَلَقَهُ مَنَ العَدَمِ على صورَتِهِ، طالِباً لِمِثالِهِ. وإذا ما كانَ مَنطِقُ الذاتِ يَفتَرِضُ التَحَدِّيَ والمُواجَهَةَ، فإنَّ تَحَدِّيَ لبنانَ، مُنذُ إنبِثاقِ الخَلقِ، يُعَرَّفُ إنطِلاقًا مِن مواجَهَةٍ عُظمى تَكمُنُ في أن يَكونَ إكتِمالُ ذاتِهِ مِن ذاتِهِ. وَلأنَّهُ كَذَلِكَ، فَلَيسَ فيهِ تَجريدٌ جافٌ بَل إقبالُ رَجفَة هُدىً.
وَفي ما سِوى ذَلِكَ، تَحَوُّلٌ عَن بَهاءِ الخالِقِ في خَليقَتِهِ الى زيفِ الإغراءِ الدُنيَويِّ، المَفطورِ حُكماً على الزوالِ، تَماماً كَما التَحَوُّلُ عَنِ المَصدَرِ يَقودً الى الفَراغِ لا الجُمودَ فَحَسب. يَشهَدُ عَليَّ ما كَلَّمَ بِهِ الكِتابُ المُقَدَّسُ الخَليقَةَ بأسرِها، بِلُغاتِها الوجودِيَّةِ وَلَهجاتِها الإيمانِيَّةِ، لا سِيَّما حِينَ حَمِلَ الى الخَليقَةِ نِداءَ خالِقشها: "هَلُّمي مَعي مِن لبنانَ... فَتَتَكَلَّلي"!.
وَمُشتَهو لبنانَ، مُنذُ إنبِثاقِ الإشتِهاءِ عاراً وَلَعنَة عارٍ، يُدرِكونَ هذا السِرَّ، أكثَرَ مِن بَنيهِ. كَما يُدرِكونَ، أنَّ إلتِزامَ لبنانَ، قَبلَ كُلِّ شَيءٍ، هو إلتِزامُ رِعايَةِ الحُرِيَّةِ... وَقيادَتَها حُرَّةً. وَهوَ أكثَرُ مِن إلتِزامٍ، إنَّهُ حَرَكَةُ الحَياةِ في غُرَّتِها، كَما في تَجَوهُرِ إنعِتاقِها مِن أيِّ قَيدٍ لِتأبى إلَّا أن َتكونَ لُقيا الآخَرينَ في وجوهِهٍم كَما في نُفوسِهِم.
وَتالياً، لبنانُ، في ما هوَ، هوَ ذاكَ النافِخَ الحياةَ في الوِحدَةِ الإنسانِيَّةِ القائِمَةِ على إعتِبارِ أنَّهُ والآخَرُ، كَلُّ آخَر، خَليقَةٌ واحِدَةٌ، مُقيمَةٌ حُرَّةً، في ذاتِ الخالِقِ. هي حُلمُهُ، وَخَليقَتُهُ. وَهوَ مُعتِقُها مِنَ الَلعنَةِ، وَعُبورُها صَحارى تَجارِبِها.
قُلنا: مُشتَهو لبنانَ؟ فَلنوضِح: هُمُ الدافِقونَ إليه مِن الصَحارى، يُطَوِّقونَهُ إبتِغاءً لِمَحوِ حَرَكَتِهِ، لأنَّها نَقيضُ سَبَبِيَّةِ وجودِهِم. وَهُمُ ذاكَ الإطارَ الفارِغَ مِن أصلِ كُلِّ صورَةٍ، مُنساقونَ خَلفَ وِحشَتِهِم التي فيهِم، والتي سُرعانَ ما تَتَحوَّلُ غَضَباً لِتَفرِقَةٍ تَستَنسِخُ أهوالاً، ووبالاً يَستَبيحُ الآخَرِ أداةَ إستِحواذٍ وَغَنيمَةَ غَلَبَةٍ. كِلاهُما يَمقُتُ الحَقُّ وَقَد هَجَرتهُما البَساطَةُ... وإفتَقَدَهُما الله. وَهُمُ ذاكَ المَدى غَيرَ المُحايدَ، المأزومَ دائِماً، والمُنتَقِمَ، سَطوَةً، مِنَ التاريخِ، كأنَّما التاريخُ قاهِرَهُ، لا ذاتُهُ القاهِرُةَ نَفسَها.
صانِعُ التاريخ
ولبنانُ؟ هوَ لا يُمتَحَنُ في التاريخِ، بل يِصنَعُهُ. وفي هَذا غِيًّ تِلكَ الصحارى. لِماذا؟ لأنَّ لبنانَ حَطَّمَ الأسوارَ التي أقامَتها بِجِهادِها حَولَ الوَعي، والسُدودَ التي أعَلتها لِتَتَلَطّى وَراءَها وَتبقى في ذاتِها راقِدَةً في أغلالِ الذاكِرَةِ.
لبنانُ لا يَتَبَدَّلُ، وإن إستَجلَبَت لَهُ الصحارى المُحاصِرَةُ لَهُ، مُجاهِدَةً، لُقطاءَ المَماليكِ وَغُلمانَ بَني عُثمانَ وَوَرَثَتِهِم الى اليومَ، ونَصَّبَتهُم حُكَّاماً مِن أسوارَ وَسُدودَ على بَنيهِ. التاريخُ يَتَبَدَّلُ، وَليسَ بَتَبديلِ التاريخِ يَتِمُّ خُروجُ الصحارى وَمُستَجلَبيها مِنَ العُبودِيَّةِ. هيَ تَتَبَدَّدُ في غِيِّها، لا سِيَّما إن إستَبقَتهً في ذاتِها.
وَلَيسَ إلَّا بِلبنانَ خلاصَها وَمُستُعبَديها وَلقَطاءَها وَغُلمانَها، لأنَّ لبنانَ مَسكونٌ في الله. هذا سِرُّهُ، وَهَذِهِ نِسبَتُهُ أو لا يَكون. بَينَ الرِسالَةِ والإستِحالَةِ. بَل هَذا أفُقُهُ وَهذِهِ نِسبَتُهُ... وَهي لا تَكون.