في مرحلة "حاسمة" من مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، على وقع الصراع المستمرّ على حقول التنقيب والإنتاج، اختار "حزب الله" أن "يضبط الإيقاع" على طريقته، فاستقبل المبعوث الأميركي آموس هوكستين كما لم يتوقّع الأخير، من خلال شريط مصوّر بالغ الدلالات، معطوفًا على جولة "قمصان سود" بالغة الرمزيّة، ولو لم يعلن تبنّيها رسميًا.
ففيما كان الجميع بانتظار وصول المبعوث الأميركي إلى بيروت، حاملاً معه الردّ الإسرائيلي على المقترحات اللبنانية التي سبق أن زُوّد بها، وعلى وقع "التسريبات" عن اقتراح جديد جاء به من تل أبيب، اقتنص "حزب الله" المبادرة، فرمى بفيديو خلط الكثير من الأوراق والمعادلات، اختزلها ربما العنوان الذي اختير له بعناية: "في المرمى.. واللعب بالوقت لا يفيد".
وإذا كانت رسائل "حزب الله" واضحة، وقد سبق لأمينه العام السيد حسن نصر الله أن عبّر عنها في إطلالته الأخيرة، حين لوّح بـ"القوة" في مواجهة أيّ "تفرد" إسرائيلي، فإنّ المواقف الرسمية من تحرّكه بدت "ملتبسة" مرّة أخرى، وإن سارع وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب إلى التأكيد مجدّدًا أنّه "لا يمثّل الدولة اللبنانية".
إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن مآلات مفاوضات الترسيم في ضوء التطورات الأخيرة، وما حملته من رسائل، فبين فيديو "حزب الله" وزيارة هوكستين، هل يكون اللبنانيون فعلاً أمام "سباق" بين خياري الحرب والدبلوماسية؟ وما صحّة الحديث عن أنّ الحزب قرع "جرس الإنذار الأخير"، وأنّ الحرب باتت بالنتيجة أقرب من أيّ وقت مضى؟!.
بالنسبة إلى العارفين، فإنّ التزامن بين فيديو "حزب الله" وزيارة هوكستين ليس محض صدفة، إذ إنّ الحزب تعمّد نشر ما بحوزته قبيل وصول المبعوث الأميركي إلى بيروت، لعلّه يأخذه في اعتباره في محادثاته مع المسؤولين اللبنانيين، لكنّه في الوقت نفسه لا يمكن أن يُفسَّر على أنّه "إعلان حرب"، إذ إنّ هناك من ينظر إلى حراك الحزب على أنّه يخدم فرضية "تفادي الحرب" أكثر من العكس، ولو أظهر جمهور "حزب الله" نفسه حماسةً لمثل هذه الحرب.
ينطلق هؤلاء في تفسير هذا الرأي من "الرسائل" الكامنة خلف الفيديو الذي نشره "حزب الله"، وأولها أنّ الأهداف الإسرائيلية "في المرمى"، أي في مرمى صواريخ المقاومة، التي أظهر الشريط معطوفًا على سلسلة العمليات الأخيرة تطوّرها على غير مستوى، وبالتالي فإنّ الحزب أراد أن يؤكد، بصورة عملية لا نظرية فحسب، أنّه قادر على ضرب الأهداف التي يريد، بما فيها السفن التي استقدمها الإسرائيليون، والتي باتت كلّ إحداثياتها في حوزة المقاومة.
ولهذه الرسالة تتمّة في قاموس الحزب، تظهر من العبارة التي ركّز عليها الفيديو في العنوان والمضمون، وهي أنّ "اللعب بالوقت لا يفيد"، أي بمعنى آخر، أراد الحزب أن يقول للإسرائيليين، والأميركيين من خلفهم، أنّ رهانهم على عامل الوقت لن يجدي، وأنّ المزيد من المماطلة وتضييع الوقت، ريثما ينجزون ما يريدون، ويحوّلونه لأمر واقع، لن يكون استراتيجية ناجحة، لأنّ "المهلة" التي تحدّث عنها السيد نصر الله في خطاب سابق، لن تكون "مفتوحة".
بين هاتين الرسالتين، يقول المتحمّسون لحراك "حزب الله" أنّه لا "يستدعي" الحرب، بقدر ما يحاول أن يفرض إيقاعه على المفاوضات، من خلال التذكير بـ"عامل القوة" الذي يمتلكه الجانب اللبناني، ما ينبغي أن يمنع أيّ محاولات "ابتزاز أو مساومة"، علمًا أنّ هؤلاء يعتبرون أنّ أداء "حزب الله" في هذا الملف من شأنه أن يقوّي ملفّ الدولة، لا العكس، ولو أوحى "الحزب" أنّه لم يعد "خلف" الدولة بل أصبح "أمامها"، نتيجة ما يقول البعض إنّه "تقاعسها".
لكن، في مقابل هذه القراءة، ثمّة من يعتبر أنّ حراك "حزب الله" لا يؤدي عمليًا سوى إلى نقيض ما سبق، فهو يشوّش من ناحية على المفاوضات، ويُظهِر الدولة بأكثر من رأس، بل يوحي أنّ التفاوض مع ممثليها الرسميين والشرعيين ما عاد مجديًا ومفيدًا، طالما أنّ هناك طرفًا آخر يبدي استعداده لفتح "الجبهة" إن لم تأتِ نتائج المفاوضات "على خاطره"، وكما يطمح ويتمنّى، ولو وافقت عليها الحكومة، ومعها كل من يدور في فلكها.
ومع أنّ هناك من يعتقد أنّ موقف "حزب الله" من شأنه أن يقوّي موقف الدولة، من خلال تلويحه بورقة "القوة" التي يملكها، ما قد يدفع الجانب الإسرائيلي إلى "التواضع" وعدم رفع الأسقف، ثمّة من يخشى من مفعول "عكسي" لها، في ظلّ الأزمة الداخلية في إسرائيل، التي من شأنها دفع المسؤولين الإسرائيليين إلى المزيد من "التصلّب"، وبالتالي فإنّ دخول "حزب الله" على الخط سيجعل أيّ "تسوية" بعيدة المنال، حتى لا تُفهَم "تنازلاً" للأخير.
ولعلّ ما يعزّز من هذه النظرة السلبية، برأي من يتبنّونها، يبقى في الترويج المفرط لخيار الحرب من جانب أنصار "حزب الله"، ممّن لا يفوّتون فرصة إلا ويُظهِرون "رغبتهم" في وقوعها اليوم قبل الغد، وهو ما يتجلّى أساسًا عبر وسائل التواصل، حتى إنّ هؤلاء لا يبدون مقتنعين بحديث السيد نصر الله نفسه عن مواجهة قد تكون "محدودة"، إن حصلت، ليقولوا إن الحرب حاصلة لا محالة، وإنّ العد العكسي لساعتها الصفر قد بدأ عمليًا.
باختصار، يبدو أنّه بالفعل سباق بين الحرب والدبلوماسية، لكنه بخلاف كلّ ما يحكى، لا يزال غير محسوم الوجهة ولا واضح المعالم، بل إنّ هناك من يؤكد أنّ ما سيحصل في النهاية سيكون "خليطًا بين الإثنين"، فالدبلوماسية إن نجحت، سيكون طابعها "حربيًا"، في ظلّ الرسائل المتبادلة على خطها، كما أنّ الحرب إن حصلت، فلن تكون على الطريقة التقليدية، إنما بشكل مواجهة لرفع سقف المفاوضات، لا أكثر ولا أقلّ!.
الصورة من دالاتي ونهرا