سادت موجة عارمة من التفاؤل بقرب التوصل الى حلول مرضية لمسألة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان، بعد ان جال الموفد الاميركي آموس هوكشتاين على المعنيين في كل من لبنان واسرائيل، وخرج بخلاصة مفادها ان الاتفاق بات اقرب من اي وقت مضى. وللمفارقة، فإن موجة التفاؤل هذه، اتت بعد ايام على موجة التشاؤم السوداء وسماع البعض طبول الحرب وهي تقرع، وكيل الاتهامات من كل حدب وصوب بعدم الرغبة اللبنانية للوصول الى اتفاق لانه لا يخدم مصالح اطراف محلية.
في الواقع، لا يمكن تناسي مسألة بالغة الاهمية، ومفادها ان روسيا هي شريكة حقيقية في مسار الترسيم، ولو بطريقة غير مباشرة لانّ الحرب التي اندلعت بينها وبين اوكرانيا، اوقعت اوروبا والعالم بأسره في ازمة طاقة وغذاء خانقة، اعادت الى الاذهان ايام الضيق في الحرب العالميّة، ودفعت اميركا والقارة العجوز الى البحث عن حلول سريعة، ولحسن لحظ فإنّ لبنان كان هذه المرة على الخارطة، فكان العمل على اجتراح الحلول لانقاذ الموقف. الاستفادة هي للجميع، فاسرائيل تستفيد ولبنان كذلك، والاهم ان اوروبا على الموعد ايضاً في هذا المجال. وبذلك، تكون روسيا لاعباً مهمّاً في هذا الحدث، من دون حضورها الفعلي على الطاولة، فيما لم تنطلِ "حيلة" المسؤولين اللبنانيين على احد، وبالاخص على هوكشتاين واسرائيل، لجهة التوجّه نحو ايران لاستقدام النفط مجاناً لتشغيل معامل الكهرباء، فالجميع يعلم ان المسؤولين في لبنان لا يمكنهم المخاطرة بالوقوف في وجه الاميركيين، وهذه المرة سيكون وقوفهم في وجه اميركا واوروبا ايضاً، فمن الّذي سيتخذ مثل هذا الموقف حتى ولو كان يصبّ في مصلحة اللبنانيين؟ قد يكون هناك شروط ومعطيات لا يملكها الكثيرون حول مسألة النفط الايراني، ولكن من المؤكد ان احداً من اللبنانيين لن يرغب ولو النظر فيها لان تداعياتها كبيرة جداً، والثمن سيكون غالياً بالنسبة اليه.
على اي حال، انتقلت دفّة الترسيم من ناحية الحرب الى ناحية احياء المفاوضات، علماً ان الارضية الدولية والمحلية باتت جاهزة لاستقبال هذا الاتفاق، فالخارج وضع السيناريو والتزم به، وها هو الداخل بدأ سباق "قطف المكاسب"، فرئيس الجمهورية قد يضع في جيبه هذا "الانجاز" في خانته قبل الامتار الاخيرة من نهاية الولاية، ورئيس مجلس النواب امّن غطاء الحزب للمشروع وهو لا يدع فرصة الا ويستغلها للتذكير بأنّه واضع اتفاق الاطار، وبالتالي المدماك الاول في مشروع بناء الترسيم، اما رئيس الحكومة فيجهد لاثبات اهمّية وجوده الذي اعطى زخماً للمفاوضات وشكّل الغطاء الرسمي للتحرك اللبناني، فيما ظهر حزب الله بمثابة "غير المعرقل" للاتفاق، واكثر من ذلك، بدا وكأنه الذراع القوية التي امّنت للبنان الحصول على ما يريد (او على افضل ما يرغب فيه)، واثبت للجميع ان سلاحه ليس مشكلة محلّية صغيرة، بل هو اساسي في اللعبة الاقليمية ولا يمكن تجاهله او الاستخفاف به، والبحث فيه لا يكون الا على صعيد دولي-اقليمي.
امام هذا الواقع، بدأ السباق الرسمي لبنانياً لحصد الغلّة، حتى قبل كشف الملابسات الكاملة للاتفاق وتفاصيله، ولكن ما همّ طالما انّ السيناريو موضوع سلفاً ولا يبقى سوى التنفيذ، وايجاد التوليفة الناجحة لاخراجه الى النور، والتحضّر لاخذ الصور مع ابتسامات عريضة تعلو الوجوه.
الاكيد في كل هذا الامر، ان لبنان لم يدخل قطار التطبيع مع اسرائيل بعد، ولكن الاجواء التحضيريّة باتت اكثر انتشاراً انما بشكل خجول، ولا يزال هناك الكثير حتماً للوصول الى هذه النقطة، الا انّ الخطة موضوعة وسيكون عامل الوقت هو الاساس في تحديد لحظتها.