لنصفق أولا للبنانيين لأن وطنهم حل في المرتبة الثانية في قائمة الأوطان التعيسة بعدما احتلت افغانستان المرتبة الأولى.
ولنعلن بأن المثلّث الأسطوري الذي غرق أو اُغرق اللبنانيون في زواياه قد اكتمل فتساوت أضلاعه وزواياه إلى حدود البلاهة والضياع ورفع إهرامات الأحزان الطويلة اذ سقطت الإهراءات بعد تفجير المرفأ . سمع المحيط العربي والإسلامي والعالمي صراخنا، لكن ثقوا أن لا حلول في الآفاق تفكّك الأساطير عندنا، لأنّ العالم مشغول اليوم وغدا بمئات الملفات الملتهبة وخصوصا تداعيات اسطورة الحروب الروسية وأوكرانيا والغاز والنفط والرعب من أسطورة الصقيع وأساطير الجنون النووي العظيمة.
1-شهدنا في الزاوية الثالثة من هذا المثلّث (الخميس 4/8/2022) الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت الضخم الذي هزّ العالم، واعتبر بنتائجه كارثة نووية أسطورية دمّرت القسم الأكبر من المناطق المسيحية الأرتوذكسية والمستشفيات والمؤسسات ودور العبادة والجامعات والقصور العريقة بهندستها التاريخية.عطل لبنان رسميا بالمناسبة، وتزامن حلول الذكرى مع سقوط الإهراءات بسبب الحرائق المشتعلة بأطنان القمح والحبوب المدفونة تحتها بسبب الحرّ أو ربما غير ذلك. حصل هذا في زمنٍ وسخ ينام فيه اللبنانيون على أبواب الأفران طلباً للرغيف، بينما ينام المسؤولون في قصورهم الفولاذية وكأننا في جمهورية لا جماهير فيها.
نجد في هذه الزاوية اتجاهين متناقضين ملفوفين بالإنقسامات والإنهيارات الكبرى التي يستحيل فهمها وردمها ونسيانها:
أ- اتجاه رسمي شعبي سياسي إعلامي يطالب بالإبقاء على معالم الإهراءات المتداعية كشاهد تاريخي حافظٍ للذاكرة الجماعية يدمغ الأجيال القادمة بالجريمة التاريخية التي دمرت البلاد والعباد، وأخفت المسؤوليات، مع أن صوت الصاروخ الإسرائيلي ما زال ماثلا في الآذان والعيون، لكن الضياع باق بهدف تبيان الأسباب والحقائق ومحاكمة المرتبكين مهما علت مراتبهم ولو عبر المحاكم الدولية.
ب- يحمل الإتجاه الآخر الصفات عينها من الشعبي الى الرسمي لكنّه القهر المقيم بقلوب أهالي المصابين، إذ تُطالب الدولة اليوم بأخذ الحيطة والحذر وعدم الإقتراب من بقايا هذه المعالم بسب مخاطر الحرائق تحت الإهراءات التي قد تسبب غباراً مخيفاً يهدد المحيط بالإختناق والأمراض. وبدلاً من التظاهر هناك، عليهم الإبتعاد وإحكام نوافذ منازلهم وعرباتهم، ووضع الكمامات فوق كمامات الكوفيد لتصبح المنطقة هناك قطعة من بقايا هيروشيما.
2- في الزاوية الأولى نتذكّر ، خروج الإمام موسى الصدر من قم عام 1958 إلى لبنان ليمنحه الرئيس فؤاد شهاب الجنسية اللبنانية. طرح الإمام مساراً فكرياً ونضالياً ومسيرةً شاقّة لإخراج طائفته من الأحزاب والتجمعات اليسارية مطلاً على النضال الفلسطيني والعربي وتشظّياته وجاذباً المفكّرين والنخب المتنوعة طائفيا من حوله. أطلق "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" ثمّ "حركة أمل" مهندساً بعض لِبْنات العلاقات السورية-الإيرانية من لبنان ورسّخ شعاراته : "السلاح زينة الرجال"، و"إسرائيل شر مطلق"، و"حركة المحرومين".
خُطف الإمام موسى الصدر في ليبيا ( 25 أغسطس/ آب 1978) أو قتل وتمّ تغييبه فصار رمزاً لطائفته الشيعية وما قد يتجاوزها في الذكرى السنوية التي يقيمها رئيس مجلس النوّاب
ورئيس"حركة أمل" نبيه برّي.
3- نتذكّر الرئيس رفيق الحريري شهيد الزاوية الأسطورية الثانية، الخارج من جرح سمكة في شاطيء صيدا نحو المملكة العربيةالسعودية ليعود ثريا مساهماً بإخراج لبنان من الحروب الطائفية الطويلة، ومحاولا إخراج أبناء عاصمته الثانية بيروت من الميثاقية التي وضع بذرتها الأولى رياض الصلح حيث لا شرق ولا غرب. كشح الحريري الشعور بالغبن الطائفي حيث لا تعداد لديه بل مناصفة بين المسيحيين والمسلمين في توزيع السلطات التي تعثّر ترسيخها عبر تطبيق إتّفاق الطائف. وكاد الرجل يرسخ في لبنان هواه المعتدل والعمراني في عالمٍ راح يضجّ بالإرهاب والغرائز والصحوات الدينية، وبقي يقيم في حدّ الأساطير بنظرته إلى مستقبل لبنان.
صعد الحريري وصعد موسى الصدر من قبله، كلّ على طريقته ونهجه وأحلامه، بمحيطهما ذي الكثافة أو الأرجحيّة الشعبيّة السنيّة والشيعية، ورسّخا سلطاتهما من لبنان وفيه نحو السطوح العالية والنفوذ ثم أسقطا من فوق ، في ظروف لا تنتهي من الألغاز و"الأساطير" الشعبيّة والإنقسامات القيادية والحزبية والطائفية والمذهبية في لبنان والمحيط .
ألا يحقّ لنا التساؤل عن أسطوريّة هذين الحدثين الكبيرين اللذين بذرا حبوب الفتنة الأولى في الصراع المذهبي إنطلاقاً من الأرض اللبنانيّة؟
جاء الخطف حدثاً بنى الشيعة أسطورياً بما تعنيه وتحمله الأسطورة من معانٍ وأفكار وتخيلات خارج دائرة الموت.
وجاء إغتيال رفيق الحريري(14 فبراير/ شباط 2005 ) في قلب بيروت المدينة العريقة للمستقبل ويوم "عيد الحب" الحافل بالأساطير والمشاعر والإحتفالات اسطورة متعددة الآفاق تستقطب الناس في لبنان والدنيا، وجاء تفجير المرفأ منذ عامين اسطوريا على المستوى المسيحي الذي لم يسود في مشاعرهم وذاكرتهم دم الشهيد الرئيس بشير الجميل.
لو سألتني الآن : ما هي الأسطورة أو ماذا تقصد بالغياب أو الموت الأسطوري اللبناني في مثلث محشو بالأساطير، مع أن ميتات أخرى حصلت في تاريخ العالم من حروب وقتل رؤوساء ورجال دين ولم تصل حتى حفافي الأساطير المقيمة ،لأجبتك على الفور بما كتبه القديس أوغسطين في كتابه: "اعترافات":
يقول:
"أعرف جيّداً ما هي الأسطورة، بشرط ألا يسألني عنها أحد ، وإذا ما سُئلت فسوف يعتريني الاحمرار والتلكؤ والخوف، لأننا نعيش في بقعة اسطورية مبهمة تنادينا بالصمت" وهذا ينطبق بنظري تماما على مزرعة متهالكة يابسة اسمها لبنان تأوي الكلام والمبالغات والأساطير الدينية والسياسية وعدم الاستقرار والمتاهات و...استدعاء الحروب والكوارث وصار اللبنانيون فعلا في المرتبة الثانية البائسة في الدنيا بعد افغانستان لكنهم صدقوني سيحتلون المرتبة البائسة الأولى عما قريب.