على غرار "جحا" والقصص التي تُروى عنه، وأهمها تصديق ما يقوله ولو كان بعيداً عن الحقيقة، كشفت الاحزاب والتيارات السياسية اللبنانية عن سواعدها وصدّقت نفسها وما ترويه من انها هي التي ستأتي برئيس الجمهورية الجديد الذي سيخلف الرئيس الحالي العماد ميشال عون عندما تنتهي ولايته بعد نحو شهرين. اذا كان البعض لا يزال يصدق هذه المواقف الرنّانة للزعماء ورؤساء الاحزاب، فهذا دليل على ان هذا البعض يعاني امراضاً خطيرة ووجب عليه اعادة النظر بوضعه بشكل عام. اما من يصدر عنهم مثل هذه المواقف، فإليهم نتوجه ونسأل: على أيّ اساس تم وضع دفتر الشروط الذي يحدد مواصفات الرئيس المقبل؟ وهل تغيّر شيء بالفعل كي "نستلهم" الصفات التي يجب ان تتوافر بالرئيس الجديد؟.
اذا كان من الناحية الدينية والطائفية، فالوضع ميؤوس منه لان الطائفة المسيحية المعنية بالامر، تعيش حالاً من الانقسام الرهيب في ما بينها، فلا مجموعة يهمّها التقارب مع الاخرى، ولا يمكن الرهان على توحّد الكلمة المسيحيّة خلف شخصيّة معيّنة. اما ما حصل في العام 2016 مع وصول الرئيس عون الى السلطة بدعم من "القوّات اللبنانية" فثبت بما لا يقبل الشك، ان الامر لم يكن من باب المصلحة العامة للبلد، بل تضمن سياسة "الجزرة والعصا" فكان الخيار ان تتمّ الاستفادة من حصول امر واقع حظي بموافقة اقليمية ودولية، وتأمين بعض المصالح الخاصة. فهل من يصدق بالفعل انّ الاطراف اللبنانية عادت الى رشدها فجأة، واختارت العماد عون بعد ان كانت من اشرس الرافضين لوصوله الى بعبدا، ومن دون اي ثمن في المقابل؟!.
واذا كان من الناحية السياسية، فالخلاف السياسي المستحكم بين الجميع يجعل من المستحيل تصديق ان التوافق سيسود بين اصحاب الرؤية السياسية المختلفة. واذا لم يستطع النواب الجدد الذين وصلوا الى البرلمان، ان يقفوا وقفة واحدة في مثل هذا الاستحقاق، فكيف يمكن توقع الاصطفاف السياسي بين الباقين الذين يبعدون عن بعض مسافات شاسعة؟ خصوصاً وان نغمة "الفريق فائز" عادت لتحكم السجال الدائر بين القوى اللبنانية التي تعتبر نفسها "مقاومة" وتلك التي ترى نفسها "محرِّرة"، وكل واحد يغنّي على ليلاه ويوهم الجميع انه قادر على فرض الرئيس الذي يريد!.
واذا كان من الناحية الدستوريّة والقانونيّة، فهل بالفعل من يحلم بحصول سيناريو شبيه لذلك الذي حصل في العام 1970 حين فاز الرئيس الراحل سليمان فرنجية على الرئيس الراحل الياس سركيس بفارق صوت واحد؟ وحتى في ذلك الوقت، هل كانت اللعبة لبنانية فقط؟ واذا سلمنا جدلاً ان هذا السيناريو ممكن ان يحصل مرة اخرى، السنا بحاجة الى مرشحين اثنين على الاقل يدعم كل منهما نصف المجلس النيابي؟ فليدلّنا احد على واحد من المرشحين، ولينعش ذاكرتنا بـ"المنافسات الرئاسيّة الحامية" التي حصلت منذ انتخاب الرئيس الراحل سركيس وحتى انتخاب الرئيس عون.
وبعد هذا وذاك، من المهمّ التذكير بأنّ صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة اياً تكن هوّيته، وبأنّ دوره ودور المسؤولين اللبنانيين كافّة، منوط بحجم الموافقة الاقليميّة والدوليّة على تطور الاوضاع في لبنان، وقد لمس الجميع لمس اليد ما عانى منه رؤساء الجمهوريّة ورؤساء مجلس الوزراء منذ ما بعد الطائف وحتى اليوم عندما كانت مصالح الخارج متناقضة، فكانت الخلافات تستعر في لبنان بين الجميع وفي مقدمهم المسؤولون. هذا هو واقع الحال اللبناني، مهما حاول البعض تجميله وتعديله ليناسب افكاره، فليس هناك من دفتر شروط، ولن نشهد هزيمة احد، بل مجرد تراجع سياسي ونسبة نفوذ لطرف، اما اللاعب الاكثر نشاطاً على خطّ الانتخابات الرئاسيّة، فسيكون التفاهم الاقليمي-الدولي، وهذا هو دفتر الشروط الوحيد القادر على انجاح الاستحقاق الرئاسي.