مجدّدًا، احتدمت "الحرب الكلامية" بين رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، قبل أيام فقط من فتح "البازار" الرئاسيّ بصورة رسمية، مع بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية مطلع أيلول المقبل، ولو أنّ التقديرات تشير إلى أنّ الاستحقاق "مؤجَّل" طالما أنّ ظروفه "لم تنضج" بعد.
فبعد الزيارة التي قام بها باسيل إلى الديمان، حيث بدا كمن "يحفّز" البطريرك الماروني بشارة الراعي في سبيل إطلاق "مبادرة"، ربما تكون "نسخة طبق الأصل" عن تلك التي قادها في الاستحقاق السابق، جاء الردّ سلبيًا، ولو بشكل مبطن، من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي أطلّ في مؤتمر صحافي ليعلن سلفًا تمسّكه بمبدأ "المواجهة" من الباب الرئاسي.
في الخطاب "المطوّل" الذي تزامن مع عيد انتقال السيدة العذراء، بدا جعجع "حازمًا" برفضه أيّ توافق على الرئيس العتيد، قاطعًا الطريق سلفًا على أيّ "تفاهم مسيحي"، وهو ما "استثار" على ما يبدو قيادات "التيار"، الذين سارعوا إلى الردّ بعنف عليه، ووجّهوا إليه اتهامات عالية السقف، على غرار "خيانة المسيحيين"، أو تكرار "خطيئة" اتفاق الطائف.
فلماذا "فُتِحت" الجبهات بهذا الشكل بين القوتين المسيحيتين الأكبر على أبواب الاستحقاق الرئاسي؟ هل هي "المزايدات الانتخابية" التي فرضت رفع السقف، كما يحصل قبل كلّ استحقاق مصيريّ، أم هي "المنافسة الشرسة" بين باسيل وجعجع؟ وكيف يقرأ "العونيون" و"القواتيون" مواقف بعضهم البعض، في الشكل والمضمون، وهل يمكن البناء عليها؟.
صحيح أنّ الموقف "العونيّ" أصبح شبه معروف، وقد تناوب عليه الكثير من قيادات "التيار"، ولا سيما الوجوه "اللصيقة" بالوزير باسيل، والمحسوبة عليه بشكل أو بآخر، إلا أنّ "جوهره" كما تختصره أوساط "التيار"، بأنّ جعجع "غدر" بالمسيحيين مرّة أخرى، حيث نزع عن استحقاقهم الأكبر صفته "الميثاقية"، ناسفًا أيّ فرصة للتفاهم أو التوافق، حتى لو أتت من قلب الكنيسة المارونية، وبغطاء البطريرك بشارة الراعي.
تنطلق هذه الأوساط من "توقيت" الهجوم الناري الذي شنّه جعجع، بعد يومين فقط من زيارة باسيل إلى الراعي، ودعوته لإطلاق "مبادرة"، لتربط بين الأمرين، وتخلص إلى أنّ "الحكيم" اغتاظ من هذه الزيارة، واغتاظ أكثر من فكرة "المبادرة" التي يكن أن تحرجه وتحشره في مكان ما، رغم أنّه يحاول "الترويج" بصورة دائمة على أنّه "الأقرب" إلى بكركي، وأنّه يتلاقى مع البطريرك الراعي في "تشخيص" مواصفات الرئيس العتيد.
بالنسبة إلى هذه الأوساط، فإنّ ما فعله جعجع في مؤتمره الأخير ببساطة هو أنّه لم يلاقِ الوزير باسيل في منتصف الطريق، بل لم يتلقف "اليد الممدودة" للأخير، الذي كان واضحًا من مواقفه الأخيرة حرصه على "احترام" الحيثية التي يمثّل، ورفضه لمبدأ "تهميشه"، فهو كان أول من فتح الباب على إمكانية "التقاطع" معه على اسم مرشح واحد، حتى إنّه في تصريحاته من الديمان، بدا كمن "يحصر" القرار الرئاسيّ بيده وبيد جعجع، باعتبارهما "الممثلين الفعليين للمسيحيين".
ولعلّ ما كان "صادمًا" في تصريحات "الحكيم" بالنسبة إلى "العونيّين"، تمثّل في تغليبه ما أسماه بـ"التفاهم الوطني" على "التفاهم المسيحي"، مع ما ينطوي على ذلك من "تبعات" على استحقاق يعني المسيحيين، خلافًا لما حصل في استحقاقات تعني طوائف أخرى، وهو ما يقولون إنّه قد "ينسجم" مع تاريخ رئيس حزب "القوات" المتهَم منذ "الطائف" بقيادة "التنازلات" عن الحقوق والصلاحيات من أجل تحصيل بعض "المكاسب" التي لا تقدّم ولا تؤخّر.
لكنّ المقاربة "العونية" للاستحقاق "العونيّ" لا تبدو محلّ أخذ وردّ بالنسبة إلى المقرّبين من "القوات"، الذين يستغربون المنطق الذي يستند إليه "التيار"، بل يستهجنون الهجوم الذي شنّه على جعجع، فقط لأنّ الأخير تمسّك بمواقفه المعروفة والمُعلَنة، ورفض "تسطيح" الاستحقاق الرئاسي من خلال الدفع نحو "توافق" من شأنه التمديد لواقع الانهيار الحالي، والذي يكاد يطيح بكل ما تبقى من مقوّمات للعيش والصمود في هذا البلد، رغم كلّ شيء.
ولعلّ أكثر ما "استفزّ" قيادة "القوات" في الهجوم "العونيّ" المنظَّم عليها، بقيادة "باسيلية الهوى" كما بدا واضحًا، يكمن في الحديث عن أنّ جعجع "نسف إمكانية التفاهم المسيحي"، وهي "كلمة السرّ" التي تكرّرت في معظم الردود عليه، وكأنّ هناك من يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبالتالي العودة لزمن "تفاهم معراب"، الذي تلا "القواتيون" فعل "الندامة" عليه، و"التوبة" عن تكراره، بعدما خبروا بأمّ العين "الخيانة الحقيقية"، وفق ما يقولون.
يشدّد المقرّبون من "القوات" على أنّ ما قاله جعجع في خطابه الأخير يمثّل الموقف الحقيقي والواضح، فالمطلوب مقاربة الاستحقاق الرئاسي كما لم تتمّ مقاربته من قبل، ولذلك يعمل جعجع على "استمالة" قوى المعارضة بشكل يومي، لعلّها "تتّحد"، فتتجاوز الاختبار الأهمّ، وتنجح في إيصال مرشح "مواجهة" حقيقي، يكون قادرًا على "تحدّي" مشروع "حزب الله"، وحليفه "التيار الوطني الحر"، بدل مرشح يقف "على الحياد"، فيمدّد للأزمة ببساطة.
ومع أنّ هناك من يقول إنّ مشروع "توحيد المعارضة" ساقط سلفًا، وأنّ المعارضة لن تكون قادرة على إيصال أيّ مرشح إلى بعبدا، بل قد تسهم من حيث لا تدري في إيصال مرشح "ممانع" إذا ما تصلّبت في موقفها، فإنّ "القواتيين" يرون في "الهجمة العونية المضادة" دليلاً على العكس، باعتبار أنّ "العونيين" ما كانوا "ليستشرسوا" بهذا الشكل لو كانوا مطمئنين إلى المسار الرئاسي، وغير "خائفين" من السيناريوهات المحتملة له.
ينفي "القواتيون" أن يكون الهدف من التصلّب إيصال جعجع إلى بعبدا، بدليل أنّ الرجل لم يعلن ترشيحه، خشية أن يكون سببًا في انقسام المعارضة، ومثلهم يفعل "العونيون" الذين يلفتون إلى أنّ باسيل يسعى لتكريس نفسه "ناخبًا أول"، قبل الغوص في الأسماء والسيناريوهات، إلا أنّ هناك من يؤكد أنّ الفريقين، بـ"مزايداتهما" التي لا تنتهي، لا يؤسّسان سوى لتكريس "فراغ رئاسي" بات كثيرون يتعاملون معه على أنّه "محتم"!.