تكاد قضية انفجار مرفأ بيروت تصبح "منسيّة" بقرار "مضمر" من السلطة السياسية التي قرّرت، في لحظة معيّنة، أن تضع حدًا لقاضٍ لم يمتثل لمشيئتها، وتجرّأ على توجيه اتهامات لبعض من "رموز المنظومة"، فحاصرته بدعاوى "كفّ اليد"، ولمّا عجزت عن "إزاحته" جانبًا، عطّلت محكمة التمييز عن بكرة أبيها، لمنع البتّ بأمر "الطعون"، فجُمّد التحقيق، وعُطّلت المحكمة، "كرمى لعيون" هؤلاء.
هكذا، اختارت السلطة السياسية "تمييع" التحقيق بانفجار ليس الأخطر في تاريخ لبنان فحسب، وقد أدّى إلى مقتل العشرات وإصابة المئات وتشريد الآلاف وتدمير العاصمة برمّتها، وإنما من بين الأقوى على مستوى العالم بأسره، إلا أنّها وجدت أنّه لا يستحق تحقيقًا ولا من يحزنون، بدليل أنّ أيام "تعطيل" التحقيق باتت تفوق تلك التي استغرقها، بين محقّق أول أطاحت به المنظومة، وثاني "كُفّت يده"، إن جاز التعبير.
مع ذلك، لم تنتهِ القضية فصولاً، إذ إنّ "أركان المنظومة" اختلفوا فيما بينهم، ففي مقابل من لا يخجل في "وقف التحقيق" بالكامل، وصولاً إلى طيّ صفحته، وقد سبق أن "شلّ" البلد بالكامل بدافع "تطيير" المحقق العدلي، الذي كاد يحمل "إثم" فتنة "الطيونة" الشهيرة، ثمّة من يرفض مثل هذه الخطوة قبل إطلاق الموقوفين على ذمّة القضية، باعتبار أنّ بعضهم مظلومون أتمّوا كلّ واجباتهم الوظيفية، ولم يخضعوا لأيّ محاكمة.
من هنا، جاءت فكرة "القاضي الرديف" غير المسبوقة في هذا الشكل، والتي بدأ تداولها، وربما العمل على تطبيقها في الأيام القليلة الماضية، بدوافع "إنسانية" بالدرجة الأولى، وذلك للمباشرة بالأمور العاجلة والملحّة في القضية، فما هي "قانونية" مثل هذه الخطوة؟ وكيف تتلقّفها مختلف الجهات المعنيّة؟ هل تنطوي على إحياء للعدالة وإحقاق للحق، كما يروّج مؤيدوها، أم أنها "دفن نهائي" للتحقيق وكلّ ما يمتّ إليه بصلة؟!.
بالنسبة إلى المدافعين عن الخطوة، وفي مقدّمهم محسوبون على "التيار الوطني الحر"، فإنّ الاعتراضات على تعيين قاضٍ "رديف" هي المشبوهة والمريبة، باعتبار أنّ هذه الخطوة هي التي ستؤدي إلى "إحياء" التحقيق المجمَّد والمعطّل، وبالتالي ستُحدِث "الخرق" الذي طال انتظاره، في ضوء إصرار فريق سياسي واسع على "كفّ يد" القاضي بأيّ طريقة، وصولاً إلى "تعطيل" تشكيلات هيئة التمييز، لمنعها من النظر بالدعاوى المطروحة أمامها لإبعاده، ما يكرّس وضعًا غير سليم على المستويين القضائي والقانوني.
يستند هؤلاء إلى بعض "الاجتهادات والفتاوى" ليعتبروا أنّ الخطوة القانونية، ولو كانت تشكّل "سابقة" على مستوى القضايا المرفوعة أمام المجلس العدلي، إذ إنّها "عادية" في القضاء، حيث لا يُعتبَر تعيين "قاضٍ رديف" أمرًا غير مألوف، ويشيرون إلى أن الدوافع "الإنسانية" أكثر من كافية في هذا الموضع، باعتبار أنّ بتّ "مصير" الموقوفين ظلمًا، والذين وصفهم الوزير السابق جبران باسيل بـ"الأسرى"، لا يجب أن يكون ترفًا.
وإذا كان "تحرير الحقيقة" وفق ما يطالب أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت مطلبًا جماعيًا، بالنسبة إلى المحسوبين على "التيار"، فإنّ هؤلاء يرون أنّ المسار يجب أن يبدأ بـ"تحرير" الموقوفين أولاً، علمًا أنّ مهام القاضي الرديف ستكون "محصورة" بجانب الأمور العاجلة والضرورية، وبصورة "مؤقتة" طالما أنّ المحقق العدلي "الأصيل" لا يستطيع تنفيذ مهامه، للأسباب والاعتبارات المعروفة بطبيعة الحال.
لكنّ هذه "المقاربة" لا تبدو مقبولة على الإطلاق لدى المعترضين على الخطوة، الذين يستهجنون مثل هذا النهج، الذي قد لا يكون الهدف منه سوى "إحراج" القاضي طارق البيطار، "فإخراجه" من المعادلة، بعدما فشلت كل الوسائل الأخرى، خصوصًا بعدما ثبُت أنّه يشكّل "عبئًا ثقيلاً" على المنظومة، التي لم توفّر طريقة لإبعاده وإزاحته ولم تجرّبها، إلا أنّها لم تحصل على مرادها حتى اليوم.
بالنسبة إلى المعترضين، فإنّ فكرة القاضي الرديف ليست قانونية ولا دستورية، بل تشكّل "بدعة" غير مسبوقة في الشكل والمضمون، علمًا أنّ "السوابق" التي يتحدّث عنها البعض في هذا المجال تختلف في الظروف والتوقيت، حيث لا يمكن لأحد أن يفكّر بتعيين قاضٍ "وكيل" حين يكون "الأصيل" موجودًا، ولا شيء يمنعه عن مواصلة مهمته، ولا سيما أنه جاهز لمباشرة مهامه، متى سمحت له السلطة السياسية بذلك.
أما إذا كان الهدف "إنساني"، ويختصر بالرغبة في "تحرير" التحقيق، عبر البتّ بمصير الموقوفين وسواه، فإنّ المطلوب لا يمكن أن يكون "تجزئة" القضية بهذا الشكل، بل المطلوب "الضغط" سياسيًا وشعبيًا على القوى التي تعطّل التحقيق من أجل "فرض" التوقيع على التشكيلات، حتى يعود التحقيق إلى مساره، وإلا فإنّ الأمر يصبح أقرب إلى "التواطؤ"، وهنا تكمن المفارقة الجوهرية بحسب هؤلاء.
في النتيجة، يبقى الأكيد أنّ "دهاليز" قضية انفجار مرفأ بيروت تشكّل برمّتها "سوابق" غير مألوفة في المسار القضائي، إذ لم يسبق أن مرّت أشهر طويلة على جريمة بهذا الحجم والتحقيق يراوح مكانه، ولم يسبق أن تفاخرت السلطة السياسية بضربها مبدأ فصل السلطات بهذا الشكل، ولم يسبق أن لجأ أحد إلى "بدع" غير قانونية، لمواجهة "مهزلة قضائية" يعطي البعض لنفسه من خلالها حقّ "شلّ البلد" كلّه، رفضًا لمثول متهمين أمام التحقيق!.