دقّت ساعة الجمعية العامة في الأمم المتحدة لدورة جديدة تحمل الرقم 77. بدأ الموفدون الدوليّون يصِلون الى المنظمة الدوليّة بعد انقطاع شبه كامل لسنتين بسبب جائحة كورونا. غير أن وفاة ملكة بريطانيا عرقلتْ مشاركة الرؤساء والملوك الذين اضطُرّوا للتوجُّه الى بريطانيا لحضور الجنازة الملكيّة بدل التوجه الى نيويورك، فاختلطت المواعيد، "وتلخبط" تنظيم "قمّة تحويل التعليم" العالميّة، المزمع انعقادها هذا الأسبوع على مستوى رؤساء الدول. وتأتي الجمعيّة العامة هذه السنة وسط انقسامات عميقة وأزمات عالميّة، وتحت عناوين مقلقة من حرب مدمّرة، وعالم تضربه فوضى المناخ، وجوع يطرق أبواب 34 دولة في العالم، ويضع 828 مليون نسمة تحت مقصلة المجاعة!.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها هذا الأسبوع: هل تَجمَع الأمم المتحدة الانقسامات الجيوستراتيجيّة، التي تدمّر نفسها والعالم، على طاولة واحدة وتخرج بمقرَّراتِ سلام؟ سيكون من الصعب ذلك؛ فالوفد الروسي، الذي عانى ما عاناه في سبيل الحصول على تأشيرات دخول للولايات المتحدة لحضور الجمعيّة العامة، من الصعب ان يرضخ لشروط او ضغوط بعد اليوم. وهل ستجد الأمم المتحدة حلولاً لمعارك الغاز والنفط المحتدمة في أوروبا؟ لن يكون مستغرباً عجز المنظمة الدوليّة عن حلّ أزمات العالم في أسبوع، وهي التي تقف عاجزة عن جمع تبرعات للدول المنكوبة والغارقة في المجاعة والأوبئة.
لن تكون أزمة أوكرانيا نجمة الجمعيّة العامة هذه السنة كما كانت سوريا في بداية حربها. إن العالم بأسره يعاني عدّة صراعات ومواجهات: فمن تهديدات بحروب وتلويح بانقطاع منابع المياه التي تؤدي الى موت ملايين البشر -إذا ما حصلت- وصولاً الى المتغيّرات المناخية المتطرّفة التي تضرب الكرو الأرضيّة، من جفافٍ وحرائقَ وسيولٍ وعواصفَ ترابيّة، حتى أن أوروبا بالأمس ضربها الجفاف وموجات الحرّ، والصين أطلقت بالأمس إنذاراً وطنياً لتعرُّضِ 31 مليون نسمة للخطر، وما تزال كاليفورينا تعيش أسوأ موجة جفاف تهدّد وجودها كولاية زراعيّة منتجة، تُطعم جميع الولايات الأميركية.
ما عسى الأمم المتحدة ان تفعل لمواجهة هذه الكوارث السياسية والطبيعيّة الجمّة وسط أسوأ أزمةٍ اقتصادية منذ مئة عام، إذ إنّ الدَّين زاد في العالم بنسبة 350%. كيف ستُقنع الأمم المتحدة روسيا بوقف هجومها على أوكرانيا، ليتمكن العالم من ان يقتات من خيرات هذين البلدين من قمح وزيوت؟ هل ستستطيع المنظمة الدوليّة ان تُهدّئ الوضع بين الصين التي ترنو عينها إلى جزيرة تايوان لتقطع الطريق على الولايات المتحدة لممارسة أعمالها التجاريّة التي تصل الى آخر حدود نيوزيلاند؟ كيف يُمكن للجمعيةَ العامة ان تجد بوادر حلول للأزمات المتفاقمة وسط غياب أصحاب الشأن ومفاتيح القرارات: الرؤساء الروسي، والصيني، والأوكراني؟.
وصل قسم كبير من قادة الدول هذا الأسبوع للمشاركة في الجمعية المذكورة، متأبّطين أجنداتهم وهواجسهم لمناقشة كيفية الخروج من الأزمات مع نظرائهم القادة. العالم كلّه تغيّر بالفعل. وحده الشرق الأوسط لم يتغيّر. فهو غارق في النزاع مع اسرائيل ومع نفسه منذ أكثر من نصف قرن. سوريا واليمن وليبيا والعراق لم يعرفوا السلام منذ أكثر من عقدين، وسط مخطّطات جيوبوليتيكية رسمها لهم الغرب، وهم يواجهونها بدماء من بقي في بلدانهم.
لبنان، الذي لم يعرف الربيع العربي كالعرب، عرف خريفاً ملتهباً بدخان الدواليب، وصَيْفاً وُصفَ بالنووي منذ سنتين، وهو اليومَ يتحضَّر لدخول الأروقة الأمميّة حاملاً ملفَّ ترسيم الحدود، غير منتبهٍ الى أن حدود وطن اللبناني أصبحت في كندا والسويد والولايات المتحدة، ولم تعد عند النهر الكبير. وحسنًا فعل رئيس الحكومة المنتهية ولايته نجيب ميقاتي، الذي وصل نيويورك لتمثيل لبنان في الجمعية العامة، باعترافه انه يتحمّل مسؤوليةَ ما وصلت اليه البلاد الى جانب سواه من المسؤولين، لكنّه سيخجل من أن يقول الحقيقة كما هي. بالتأكيد لن يقول في كلمته إن اللبناني يموت على أبواب المستشفيات، وان أدوية السرطان مفقودة... لن يقول ان بلاد الأرز غارقة في العتمة خشية ان تشمت بنا "أريتريا"، "والصومال" التي تقود ثورة في الطاقة وتتقدم اقتصادياً. حتمًا لن يشير الى عمليّات الكومندوس المُحِقّة للمودعين الأبطال لاسترجاع أموالهم المنهوبة والمحتجزة، وسوف يصمت عن قول ان لبنان غارق باليأس والفوضى الأمنيّة. كيف سيواجه وفد وزير الخارجيّة عبد الله بو حبيب، المشارك في الجمعية، موظفي البعثات الدبلوماسية اللبنانيين المقتطعة رواتبهم بشكل أصبحوا عاجزين عن الاستمرار حياتيًّا في الخارج؟ بأي عينٍ سيخاطبهم الوفدُ الوزاريُّ "الموسّع" بعدده الآتي الى نيويورك في أصعب ظروف تمرّ بها البلاد، ولم يرضَ إلا بحجز غرف في أفخم فنادق المدينة، التي تبلغ تسعيرة الغرفة 1200$ في اليوم الواحد؟!.
ويتساءل المراقبون: كيف سيقابل الوفد اللبناني أعضاء مجلس الأمن بعد سحب بساط السيادة من أيدي السلطات الأمنيّة اللبنانيّة وتسليمه لليونيفيل خلال المفاوضات في مشروع قرار تجديد مهمة القوّة الدوليّة العاملة في الجنوب اللبناني، الأمر الذي أغضب القصر الرئاسي وقيادة الجيش اللبناني بعدما انكشفت المنطقة أمنياً... والرزق ع الله وعلى القوات العاملة في الجنوب!.
بعد كل هذه الخيبات في الدبلوماسيّة اللبنانية، ينصح المراقبون دولة لبنان بأن توفد الصبيّة "سالي حافظ" لتُلقي كلمة لبنان على منبر الأمم المحتدة، لأنها حتماً الأصدق... وقد باتت أسطورة في زمن الإنهيار والخيبات!.
الأمم المتحدة-نيويورك