بعد تسلم لبنان إقتراح الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتين، بات من الضروري التطرق إلى مجموعة من العوامل التي قادت إلى التقدم في مسار المفاوضات، بعد نحو عامين من الإعلان عن إتفاق الإطار، بالإضافة إلى سنوات طويلة من المفاوضات التي كانت واشنطن تتولى فيها دور الوسيط، للتعرف لاحقاً على التداعيات التي من الممكن أن تترتب على أيّ إتفاق، خصوصاً على مستوى الملفّات اللبنانية العالقة.
من حيث المبدأ، كان هذا الملف من أبرز الأوراق التي استخدمت في إطار سياسة الضغوط القصوى المفروضة على لبنان، الأمر الذي ترجم عبر منع الشركات العالميّة الكبرى من القيام بأيّ عمل جدي في المياه الإقليمية اللبنانيّة، وبالتالي تأخّر المشاريع الإستثمارية في مقابل التقدّم الذي كانت تحرزه تل أبيب على هذا الصعيد، وهو ما قاد إلى وضع الحصول على ضمانات متعلّقة بعمل الشركات بنداً أساسياً في المفاوضات، حيث باتت شركة "توتال" الفرنسية فريقاً في المفاوضات التي كان يقوم بها هوكشتين.
في هذا السياق، قد تكون الحرب في أوكرانيا، بما تركته من تداعيات على أمن الطاقة على مستوى العالم، هي أحد الأسباب التي قادت إلى تحريك هذا الملف بكل قوّة، نظراً إلى الرغبة الأميركيّة، القديمة الجديدة، بدفع الدول الأوروبيّة إلى التخلّي عن الإعتماد عن الغاز الروسي، في مقابل عدم وجود أيّ مصدر آخر لهذه المادة لا تقود إستفادة أوروبا منه إلى إستفادة موسكو بطريقة أخرى، وبالتالي بات الواقع في القارة العجوز جزءاً أساسياً من العوامل التي سرعت المفاوضات.
في الجانب اللبناني، كان هناك مجموعة من نقاط القوّة التي لا يمكن تجاهلها بأي شكل من الأشكال، أبرزها توقيت دخول "حزب الله" على خط هذا الملفّ، بعد أن كان على مدى سنوات يؤكّد الوقوف خلف ما تقرره الدولة اللبنانية على هذا الصعيد، في حين كانت تل أبيب بأمس الحاجة للإنتهاء من المفاوضات، نظراً إلى الإستثمارات الضخمة التي كانت قد قامت بها في السنوات الماضية، بالإضافة إلى رغبتها بالإستفادة من الحاجة الأوروبيّة الراهنة، وبالتالي الإستعداد لتقديم تنازلات تقود إلى الإتفاق.
التقدّم الحالي في مسار المفاوضات، حيث جميع الجهات المعنية تؤكد الأجواء الإيجابية، لا يلغي المزايدات القائمة على المستويين الداخلي في لبنان وإسرائيل، فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو، هدّد بتكرار ما فعله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع الإتفاق النووي الإيراني بحال فوزه في إنتخابات الكنيست، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء يائير لابيد إلى التأكيد أن الإتفاق يصبّ في صالح بلاده، بينما في بيروت المزايدات، التي لا تزال خجولة نسبياً، يبدو أن الهدف الأساسي منها التأثير على صورة "حزب الله"، على قاعدة تحميله مسؤولية التنازل عمّا يعتبره البعض حقوقاً سيّادية، أيّ في النقطة التي يتباهى بها لتأكيد أهمية الإبقاء على سلاحه.
بالنسبة إلى التداعيات المنتظرة على الواقع الداخلي، التي قد تكون أهم ما يجب إنتظاره في حال الوصول إلى إتفاق نهائي، تنقسم الآراء في قراءة هذا الأمر، حيث هناك من يعتبر أن "حزب الله" سيكون أبرز المستفيدين من ذلك في الفترة المقبلة، خصوصاً على مستوى الإستحقاقات المنتظرة، بينما هناك من يؤكد عدم وجود أي ترابط بين ترسيم الحدود البحرية والملفات اللبنانية الداخلية.
إنطلاقاً من ذلك، يمكن الحديث عن سيناريوهين أساسيين: الأول هو أن يكون لهذا الإتفاق تداعيات إيجابيّة على الواقع الداخلي، الأمر الذي يقود إلى تسهيل إنجاز الإستحقاقات المنتظرة، أو الأقل عدم التصعيد في فترة إنتظار التسويات، أما الثاني هو ألاّ يكون لهذا الإتفاق أيّ تداعيات إيجابيّة على الواقع الداخلي، وبالتالي إبقاء باب التصعيد محتملاً، خصوصاً على مستوى الإستحقاق الرئاسي، ما يعيد إلى الأذهان ما كان يطرحه البعض، لناحية أن الولايات المتحدة، بعد الإنتهاء من ترسيم الحدود، ستكون أكثر تشدّداً على المستوى الداخلي.
في مطلق الأحوال لا يمكن الحديث عن أنّ هذا الإتفاق بات أمراً واقعاً، بالرغم من الإيجابية التي تطغى على مواقف مختلف الجهات المعنية، نظراً إلى وجود نقاط لا تزال عالقة قد تكون هي الشيطان الذي يكمن في التفاصيل، لكن في المقابل من الضروري الإشارة إلى أنه في الملفّات الداخلية هناك أفرقاء آخرين، إقليميين ودوليين، قد لا يوافقون على أيّ تهدئة في الساحة اللبنانية من دون أثمان سيّاسية، لا يبدو أن إتفاق ترسيم الحدود يتضمّنها.