ما همّ المواطن اللبناني لو محَى الاتحاد الروسي دولة أوكرانيا عن وجه أوروبا؟ ماذا ينفع اللبناني لو اجتاح الناتو الأراضي الروسيّة واستسلم القيصر لصالح الغرب؟ ماذا سيكسب المواطن في لبنان لو تغيّر النظام السوري واستُبدل بشّار الأسد برئيس جديد من صنع الولايات المتحدة؟ ماذا ينفعنا لو خلعت إيران حجابها ولبسته أفغانستان؟!.
يخوض اللبنانيون اليوم أشرس المعارك، بعضهم ضدَ بعض، على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل ان ينتصر هذا ويُهزم ذاك، بدل ان يفكّروا في كيفية الخروج من أزمة اقتصاديّة معيشيّة لم تشهدها البلاد منذ الاستقلال عام 1943. واللبناني الذي يصف نفسه بالإنسان الذكي، لم ينتبه بعد الى ان الطبقة الحاكمة تلهيه بمشاريع النفط والغاز، وتعده بالنعيم القريب. لم ينتبه حتى الساعة ان النفط الموعود خاضع لعمليّة استخراج تستغرق أعواماً، ولم يتّعظ من أمثولة فنزويلا والعراق وأكثر دول أفريقيا، دول النفط والذهب المحاصرة بالفقر والعوز بفضل الإدارات الفاسدة واطماع الدول المسماة "عُظمى".
ونسأل، كيف سيصمد المواطن اللبناني أمام هذه الأزمة قبل ان يُباع الغاز ويصبح لبنان دولة نفطية بمردود كبير يُنهض البلاد من بئر العوز والانهيار؟.
ولاختيار رئيس جديد، لا بد من انتظار نهاية الحرب في أوروبا، حتى لو استغرقت عقداً من الزمن، ريثما نتوصل الى انتخاب رئيس يمثل الفريق الرابح في الحرب العالميّة الاقتصادية، كي يكون موقف لبنان أقوى عالمياً، وهو الذي أضاع حضوره بيده عن خارطة الدول المؤثرة، بفضل اختياره لممثلين ومسؤولين، يعملون تحت قاعدة "حارة كل مين إيدو إلو".
كيف لم ينتبه اللبناني "الذكي" الى ان بلاده تساوي "لا شيئاً" في صراعات الكبار. ونعجب لرهان فصائل من الشعب على محاسبة الولايات المتحدة لروسيا بعد غزوها لأوكرانيا، مهدّدة على وسائل التواصل، بأنها ستمحوها عن الخارطة، في "بوست" ركّبه الأذكياء، لا يشبه تصاريح البيت الأبيض. حتماً ان الولايات المتحدة لن تضحّي بجندي واحد طالما أنها قادرة على كسب المعارك بواسطة النفط والغاز والقمح والعقوبات.
الشعوب الذكية فهمت اللعبة، وتذكّرت كيف كانت روسيا تتفرّج يوم غزت الولايات المتحدة دولة العراق عام 2003 في حرب أسفرت عن 654 ألف قتيل، من أجل مكاسب نفطية. والواضح اليوم ان الأخيرة تتفرّج بدورها على الصراع الدائر في أوروبا، طالما أنّها لن تخسر فيها شيئاً. لا يعني هذا ان الولايات المتحدة في مأمن من الهزّات الاقتصادية، فهي تعمل جاهدة للخروج منها. الكل في ورطة، روسيا التي دخلت في حرب لن ترضى إلا أن تخرج منها منتصرة، واوروبا بدأت شعوبها تدفع ثمن الصراع من خلال مواجهتها لأزمة نفط وغاز غير مسبوقة في تاريخ القارة العجوز؛ أزمة قد تقود الى انهيار الاتحاد الأوروبي أو على الأقل، تفكّكه.
في الحرب الثالثة، يبدو ان معظم العملات ذاهبة الى تدهور، إلا الدولار الأميركي. مصادر خاصّة بـ"النشرة" أكّدت ان لعبة التعرّض للدولار كاللعب بالنار. فهو عملة المنظمات الدولية الحاكمة التي رفعت سلاحها المخفي في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مهددة إياه بالعزوف عن التسويق للروبل، فبدا متراجعاً مخافة أن يلقى مصير الرئيس الليبي معمّر القذافي الذي قُتل بسبب حلمه بتوحيد العملة في دول شرق إفريقيا "إيكو" في المعاملات التجارية اعتباراً من عام 2020، فانتهى في حفرة خريف عام 2011.
كل العملات الأجنبية في حرب بعضها مع البعض، إلا الليرة اللبنانية؛ فهي تنازع على فراش بلاد عاشت على حساب رؤوس الأموال الكبيرة الهاربة من أنظمة أوطانها، وهي تتطلّع اليوم الى مغيثٍ في زمن الشحّ المالي العالمي. حتماً لن تحصل بعد كل النداءات إلا على سلفة من البنك الدولي بشروط عالية، بعد أن خبِر الأخير عن كثب مواجهة القادة اللبنانيين للأزمة التي أنذرهم بها عدة مرات في السنوات العشر الأخيرة، موجهاً نداءه: "انتبهوا.. رايحين عالإنهيار". لكنّ اللبنانيين كانوا منهمكين بحفلاتِ تكريم بعضهم لبعض على إنجازات وهميّة. في المقابل هنأ البنك الدولي لبنان على تأخير زمن الانهيار الذي كان لا بد منه قبل سنوات، لولا عناية "الأم الحنون" وعقدها لمؤتمرات باريس لمساعدة لبنان.
وبعد أن وقعت الواقعة، يتساءل اللبنانيون: الى أي نموذج دولة نحن ذاهبون. حتماً، سيشبه لبنان دولة ما مرّت في نفس الظروف. ليست فنزويلا بالتأكيد، لأنّ تكوين المجتمع اللبناني وثقافته لا يشبهان تلك البلاد، لا من حيث المساحة ولا المحيط الدولي الذي يعيش لبنان في حضنه، ولا من حيث نظامها الشيوعي، ولا حتى من حيث عدد المهاجرين المنتشرين الّذين ينتشلون بلدهم من المجاعة عند كل حرب أو أزمة.
ان عدم التوافق على حكومة وطنية ورئيس قد يقود البلاد سياسياً، وللأسف، الى نموذج الصومال حيث الاضطرابات السياسية والفشل السياسي الإداري هي الغالبة، نتيجة انقسام عريض في المجتمع السياسي المفكك، إضافة الى انتكاسات اقتصادية شديدة التأثير على المواطنين، والفساد المتحكّم في مؤسسات الدولة منذ عقود، مع إيجابية واحدة، تكمن في أهمية دور الجيش في حماية الاستقرار الأمني.
اما اقتصادياً، فيبدو ان لبنان يتّجه الى نموذج دول البلقان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يعيش البلقانيّون في هدوء أمني وتواضع معيشي شديد وسط غياب الرفاهية والسيارات الفاخرة والماركات العالمية التي تُباع حصراً للقلّة الأثرياء في بلادهم.
وإلى ان يتوصل لبنان بعد سنوات الى بيع غازه، لا بد من حلول تؤمن استمرارية عيش اللبنانيين بكرامة. فلا عيب ان نستعين بخبرة السوريين في الزراعة، وبمهارة الأتراك في الصناعة، وببراعة الإماراتيّين والمصريّين في صناعة السياحة. ولا بدّ ان نتذكّر ان "حكومات العالم تنام ملء جفونها"، ولن يصبح لبنان دولة قوية إلا عندما يقوم بنفسه من بؤرة الوحل التي هو فيها، وعندما يصبح قادراً على دفع رواتب جيشه من عرق جبين اللبنانيين.