لطالما دعا رئيس البنك الدّوليّ دايفيد مالباس الصّين، الدّائن الرّئيسيّ للدُّول الُمنخفضة الدّخل، إِلى أَن تكون أَكثر انفتاحًا في شأن الاقراض، وأَن تكون أَكثر نشاطًا في جُهود إِعادة هَيْكلة الدُّيون، وهي عمليّةٌ تُواجِه صعوباتٍ!.
وغالبًا ما تأتي تعليقات مالباس، في وقتٍ صعبٍ بالنّسبة إِلى الاقتصاد العالميّ، الّذي يُكافح مع ارتفاع التضخُّم وارتفاع أَسعار الفائدة الّتي تُهدّد بالانتشار في كُلّ أَنحاء العالم وإِخراج الانتعاش الجديد المُسجَّل عن سكّتِه. وقد سبق له أَن حذَّر بعض المُراقِبين مِن أَنّ رفع أَسعار الفوائِد في شكلٍ كبيرٍ مِن قبل اقتصاداتٍ كُبرى، يُمكن أَن يُؤدّي إِلى رُكودٍ شاملٍ، ولكنّ صانِعي السّياسة يقولون إِنّ السّماح بتضخُّمٍ مُرتفعٍ سيكون حتّى أَسوأَ!.
بيئة نموٍّ أَسرع
وقال مالباس في 7 تشرين الأَوّل الجاري: "مِن المُهمّ جدًّا، فيما نُواجه هذه الأَزمات الماليّة في العالم النّامي، أَن نعترف بالأَهميّة الكُبرى للاقتصادات المُتقدّمة في مجال استعادة النُموّ والتحرُّك نحو بيئة نموٍّ أَسرع".
كما وأَنّ الدُّول النّامية، في حاجةٍ أَيضًا إِلى مزيدٍ مِن تدفُّق رُؤوس الأَموال. وعلى رُغم أَن البنك الدّوليّ يُوسّع نطاق مُساعداته للدّول إِلّا أَنّ ذلك "غير كاف".
4 مَوجاتٍ
وبحسب البنك الدّوليّ، فقد حصلَت أَربع مَوْجاتٍ مِن أَزمة الدُّيون في الاقتصاد العالميّ مُنذ 1970، ما أَدّى إِلى أَزماتٍ ماليّةٍ في الكثير من الاقتصادات النّاشئة والنّامية.
العنف اليميني
كما ولا ينبغي إغفال ظاهرة العنف اليمينيّ المُتطرّف في دولٍ كثيرةٍ في أُوروبا، وذلك لا يُعزى فقط إِلى زيادة أَعداد المُهاجِرين، بل وأَيضًا إِلى شُعور كثيرٍ مِن فئات المُجتمَع في دولٍ كثيرةٍ، سواء الدّيمقراطيّة منها أَم الدّيكتاتوريّة، المنفتح منها أَم السّلطويّ، بالإِهمال والتّهميش بسبب سوء توزيع الدّخل والثّروة، وبسبب عجز الحُكومات عن حلّ مُشكلات النّاس. ولذلك برزت الحركات اليمينيّة المُتطرّفة، وحقّقت أَحزابُها انتصاراتٍ سياسيّةً في الانتخابات.
وتُشير كذلك إِحصاءات الجرائم السّياسيّة، إِلى أَنّ مخاطر الأَحداث الإِرهابيّة النّاجمة عمّا يُسمّى الإِرهاب المدفوع بالدّين، أو بِكُرْه الأَجانب، إِلى نموٍّ مُستمرٍّ.
ولذلك يُنذر الأَميركيّ ريموند داليو، مُؤلّف كتاب "أَزمة المديونيّة العالميّة" (The Big Debt Crisis)، وهو مِن الكُتب الّتي اكتسبَت مكانةً كبيرةً في العام 2018، بحُدوث كارثةٍ عالميّةٍ، و"بخاصّةٍ إِذا حلّ التّنافُس والتّناحر مكان التّعاون في مُواجهة الأَزمة الاقتصادية الّتي بدأَت رؤُوسها البشعة تظهر فوق السّطح".
وهذا ما دفع داليو، إِلى أَن يرأَس واحدًا مِن أَكبر "صناديق التّحوط" أَو(Hedge Funds) في العالم، بتقديم حُلولٍ ماليّةٍ مِن أَجل إِدارة الأَزمات الماليّة على مُستوى الأَفراد والأُسَر والشّركات والحُكومات. ويضع قواعد لهذه السُّلوكيّات، تقوم على ترشيد الإِنفاق أَيّام اليُسر، لأَنّ ذلك أَسهل مِن التّدبير أَيّام العسر.
فهو القائل، إِنّ "التضخُّم المُنفلِت (hyperinflation)أَصعب إِدارةً، ويتطلّب وقتًا أَطوَل من إِدارة التّراجُع (deinflation)".
ويُحذّر داليو الدُّول مِن إِغراء طباعة النُّقود، لتسيير الدَّوْرة الاقتصاديّة، لأَنّ هذه هي الآفة الّتي يَصطنِعُها بعض الدُّول، للخُروج مِن العَجز في موازناته، ولتمويل مشروعاتٍ غير مُجديةٍ.
العالم المأْزوم إِلى أَين؟
وثمّة اقتصاديُّون آخرون يتفهَّمون صورة العالَم كما تعكسُها تخصُّصاتهم والنّشاطات الّتي يُمارسونها... ومع هذا، فقد صار التنبُّؤ بقُرب حصول انهيارٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ أَكثر قُربًا واحتمالًا مما كان يُعتقد قبل عامَيْن اثنَيْن مثلاً.
ويحرص الخُبراء الماليُّون والاقتصاديُّون على أَلّا تتعرّض سمعتهم للامتحان العسير ثانيةً، بعدما فشلوا فشلًا ذريعًا في استثناء أَقليّةٍ قليلةٍ منهم، في التنبُّؤ بأَزمةٍ في العام 2008، وفي الاستدلال إِلى أَسبابها ونتائجها.
ويثور السُّؤال الكبير: هل تَعلَّم العالَم مِن الدُّروس القاسية للأَزمات الماليّة المُتتابِعة مِن أَزمة المديونيّة في ثمانينات القرن الماضي، والأَزمة الآسيويّة في التّسعينات، وأَزمة العام 2008؟.
أَم أَنّ العالم لم يُدرك بعد، أَن الحُلول الّتي قُدّمت للخُروج مِن أَزمة 2008 كانت قد عولِجت بالسُّموم نفسها الّتي ساهمت في إِيجاد الأَزمة أَصلاً، وعلى قاعدة قول الشّاعر أَبي نوّاس: "... وداوِني بالّتي كانَت هي الدّاء"؟...
وهل ثمّة مَن أَيقن أَنّ المُؤَسّسات الماليّة والعقاريّة والتّأمينيّة الكُبرى مثلًا، والّتي أَحدثت "المشتقّات الماليّة"، و"البالونات الاستثماريّة"... هي التي انتفعَت مِن مشروع الإِنقاذ الماليّ إِبّان فترة الرّئيس الأميركيّ السّابق باراك أُوباما؟.
هل تعلَّم العرب؟
لا بُدّ ثانيةً، مِن أَن تُدرك الدُّول العربيّة أَنّها في مُواجهة أَزمةٍ ماليّةٍ والقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ خطِرةٍ... وأَنّ أَنظمةً عربيّةً مُتنافِسةً كثيرةً، في حاجةٍ ماسّةٍ أَكثر مِن أَيّ وقتٍ مضى، لكي تضع السُّيوف جانبًا، وتستبدل بها المحاريث والتّعاون؟.
وهل تعلّم العرب تاليًا، مِن "أَزمات الرّبيع العربيّ"؟... وهل أَيقَنوا أَخيرًا، أَنّ أَيّ مُحاولاتٍ للتّقليل مِن احتمالات التظاهُر والعُنف المُجتمعيّ، والاحتجاج السّياسيّ في الأَيّام المُقبلة، داخل بعض الدُّول العربيّة، هي مُحاولةٌ عمياء، ستزيد مِن العُنف عنفًا، ومِن النّار تأجيجًا؟!.