استفاقت اوروبا على أزمة لم تشهدها منذ عقود. شعبها المدلّل الذي كان ينعم بالبحبوحة والدفء، أضحى لاهثاً وراء قارورة غاز كي يحمي نفسه وعائلته من برد الشتاء، عدا عن عشرات الأسئلة التي تدور يومياً في رأسه حول المستقبل. هزّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرش أمان القارة العجوز، ودفع بحكامها الى حيرة من أمرهم، يلملمون طاقاتهم ويبحثون عن المواد الأوليّة لشعوبهم من نفط وقمح ومواد غذائية أخرى. الشعب الروسي بدوره بدأ يشعر بالقلق ويسأل: هل ستمتد الحرب الى موسكو؟.
في الواقع، ان الوضع خطير اليوم، ويزداد خطورة يوماً بعد آخر، توسّعت حلقة الحرب مع وصول الفرقة 101 الى اوروبا لمساندة الناتو والجيش الأوكراني. هي الفرقة الأكثر تدريباً في الجيش الأميركي والتي يعود تأسيسها الى عام 1942، وقد شاركت للمرة الأولى في عملية إنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية، يعني "وجّا خير"!.وما إن وطأت أقدام مقاتليها الأراضي الأوكرانية، سارع الرئيس الأميركي الى نفي مشاركة بلاده في الحرب في اوروبا. غريب هذا الأمر! إذن كم من "إيد وإجر" في السياسة الخارجية للولايات المتّحدة؟!.
في المقابل، لم تستخدم روسيا حتى اليوم سوى ألوِيَتها العادية، وليس القوات الخاصة او قوات النخبة. هذا لا يعني ان التفوّق العسكري لا يحمي بالضرورة الدول من الإنهيار كما برهنت التجربة السوفياتيّة، حسب ما جاء على لسان مراقب دبلوماسي.
الكل يطرح السؤال اليوم. هل يفعلها بوتين؟ هل سيستخدم السلاح النووي؟ حتى الساعة، يبدو انه ليس بحاجة الى هذا النوع من السلاح، بعدما وجّهت روسيا للمرة الرابعة ضربات صاروخيّة عالية الدقّة لبعض المنشآت في البنية التحتية الأوكرانية.
الأمر الذي جعل نصف دولة أوكرانيا دون إنترنت او كهرباء. شُلّت محطات الطاقة التي تزوّد القطارات التي تنقل الأسلحة والمؤن للعسكريين في القتال من الجنوب الى الشرق، كما أثّر أيضاً على قطارات الناتو التي تنقل الأسلحة وتوقفت على الحدود الهولنديّة ولم تستطع إكمال طريقها بسبب النقص في الوقود.
اعتبرت الولايات المتحدة والناتو هذا التكتيك سيطرة فعليّة على اوكرانيا، فأرسلت القوة الضاربة لمساعدتها، وحمّل المراقبون الرئيس بايدن مسؤولية اندلاع هذه الحرب عندما وعد كييف بالإنضمام الى حلف شمال الأطلسي، ووضعوا كل اللوم في بما يحصل على الإدارة الأميركية الحالية.
وتعجبْ روسيا من "عدم خبرة " الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي انقاد في الإتجاه المعاكس بعدما أخذ وعوداً منها انها لا تريد شبراً واحداً من الأراضي الأوكرانيّة، بعد سيطرتها على شبه جزيرة القرم عام 2014، هذا الإقليم الذي تؤمن من خلاله إطلالة على البحر الأسود، هي بحاجة لهذا الموقع.. عدا ان موسكو كانت قد صرفت أكثر من 50 مليار دولار ما بين أعوام 1990-2011، في حين ان الرئيس بايدن تكرّم على نظيره الأوكراني عندما زار البيت الأبيض في أيلول من عام 2021، بمبلغ 45 مليون دولار كمساعدات إنسانيّة، فحصل كل مواطن أوكراني على مبلغ دولار وربع!.
في هذا السياق لا بدّ من الاشارة الى تصريح خطير صدر عبر فيديو في واشنطن عن سيناتور جمهوري سابق يشرح فيه هدف الدعم الأميركي لاوكرانيا، فقال ان الولايات المتحدة لا تأبه لموت الملايين من الأوكران، وليس لديها ايّ رغبة استراتيجية في البلاد، إنما استطاعت من خلال هذه الحرب بيع أسلحتها المكدّسة في مصانع تكساس، لتؤمن من خلالها الخروج السريع من الأزمة الإقتصادية بعدما عبثت كورونا بقطاع المال والتجارة والسياحة وفي كل قطاعات القارة الغنيّة.
لا أحد في أوروبا يريد الحرب، ولكن الحروب بمعظمها تبدأ "بزحطة" او انجرار غير مرغوب فيه. المانيا تحاول النأي بنفسها لأنّ اقتصادها أصبح بخطر، وهي مستعدة لجرّ انابيب النفط ولو من القمر... وبريطانيا تعيش أزمة اقتصاديّة طاحنة. ويُسمع صراخ الفرنسيين الى ما بعد حدود بلادهم، بعد تدهور الوضع الإقتصادي وتفاقم أزمة الطاقة مع اقتراب فصل الشتاء، أضف الى هذا المأزق الجديد الّذي كشف عن تورّط حاشية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عمليات فساد، جعلت من سيّد الإليزيه يواجه تحديات الداخل الفرنسي من جهة والخارج مع جوقة الناتو للوصول الى نهاية توقّف نزف الدماء في اوكرانيا.وإذا أردنا أن نشرح عن معاناة الأوروبيين جراء تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، فاللائحة لا تنتهي... فكيف سيقدر قادة هؤلاء الدول حلّ أزمة سياسية بهذا الحجم النووي الطلعة.
وتستنفر الأمم المتحدة جهودها يومياً لإقناع طرفي النزاع للجوء الى الدبلوماسية والحوار، وهي تعرف تماماً ما معنى استخدام الأسلحة النوويّة في الحروب، تشاهدها يومياً معلّقة على جدران المنظمة في نيويورك، من خلال صور القصف النووي على هيروشيما في آب 1945،وقد خصّصت من أجلها اللجنة الأولى من بين لجانها تحت إسم: "نزع السلاح والأمن الدوليين".
هل تبقى الأسلحة النووية فزّاعة الشعوب للخروج بمكاسب في المفاوضات؟ كثيرة هي الدول التي تمتلكها، من باكستان والهند،الى ايران، فرنسا، الصين، كوريا الشمالية، اسرائيل، بريطانيا وروسيا، بحسب قائمة معهد ستوكهولم. هل السلاح النووي بعيد عن الأسلحة الكيميائية االتي تُستخدم في الحروب الباردة هنا وهناك؟ فالنووي إبن عمّ السلاح الكيميائي الذي ينفّذ مجازر ويقتل الآلاف من الشعوب من دون إراقة قطرة دم واحدة، وقد استُخدم عدة مرات في العراق بحق الأكراد والشعب العراقي منذ 1988.
استُخدم السلاح النووي تكتيكياً في العقود الماضية، ومن الممكن ان يُستخدم في حرب روسيا-أوكرانيا اليوم، كما صرّحت مصادر روسية، والتي أعلنت انها تمتلك 2000 رأس نووي تكتيكي. من الجائز ان تستخدمها مدعومة أشدّ الدعم من حليفتها الشيشان، والتي أعلن رئيسها رمضان قديروف انه لا بد منها لحسم الحرب. وبعد ان ظهرت بالأمس القريب رواية "القنبلة القذرة" الأوكرانيّة، وهي إبنة خالة القنبلة النووية، فهي مزيج من المواد المتفجرة المزوّدة بمواد مشعّة تنتشر في الهواء بعد التفجير، ومع ان اوكرانيا نفتها، ازداد غضب الروس وهدّدوا بما يملكون من أسلحة ثقيلة.
مجلس الأمن يجتمع هذا الأسبوع بطلب من الروس للبحث في قذارة "القذرة"،مع أنهم يمارسون منهجية الدمار الشامل في كل بقعة وصلوا اليها في اوكرانيا. وينصح المراقبون العالم الغربي والولايات المتحدة، ألا بعدم اللعب بنار روسيا. "لا تزركوا بوتين لئلا"... يستخدم رؤوسه النووية في لحظة يتيقّن فيها ان الوجود الروسي في خطر. "ربما" سيفعلها، ولتذهب الأمم المتحدة الى جمع البطانيّات والأدوية كما فعلت في حروب الربيع العربي.
الرئيس بايدن برّد القلوب مع تصريحه ان الولايات المتحدة لن تشارك في الحرب ولو انه أرسل "تمثيلية" الفرقة 101 الى اوكرانيا، فالنووي مُستبعَد اليوم الى حين تنتهي الأزمة... الطويلة.