لم تحمل آخر "جولات" الانتخاب الرئاسي في مجلس النواب أيّ جديد يُذكَر، ما عدا "الرتابة" التي أضفتها على المشهد، بعدما بدت جلسة البرلمان "لزوم ما لا يلزم" إن جاز التعبير، وقد أحاط بها "الملل" بكلّ أشكاله، لدرجة خلوّها من سجالات ما اصطلح على تسميته بـ"طق الحنك" التي طبعت سابقاتها، وكأنّ الجميع سلّموا بأمر نصاب الجلسة، حتى أنّ رئيس المجلس نبيه بري لم يكلّف نفسه "عناء" عدّ النواب قبل رفعها، رفق بعض الشهود.
ولمزيد من "التشويق" الذي غاب عن الجلسة، جاء قرار المجلس الدستوري بقبول أحد الطعون الانتخابية، ويُبطِل بموجبة نيابة كلّ من رامي فنج وفراس السلوم، ويعلن نيابة كلّ من فيصل كرامي وحيدر آصف ناصر بديلَين لهما، ليرسم علامات استفهام عمّا إذا كان هذا التغيير على "تركيبة" المجلس سيبقى "يتيمًا"، أم سيتبعه آخر مرتقب في غضون أسبوعين، وما إذا كان هذا المسار يمكن أن يعدّل في موازين القوى، بما يحرّك الملف الرئاسي.
وسط هذه التطورات الداخلية، الشكلية في نظر كثيرين، رغم أهميتها الظاهرة، اتجهت الأنظار إلى العاصمة القطرية الدوحة هذا الأسبوع، ليس فقط بسبب استضافتها مونديال 2022، في أول حدث عالمي من نوعه في المنطقة العربية، مع كلّ ما أحاط به من اهتمام إقليمي ودولي، ولكن أيضًا بسبب عودة "الرهانات" على دور خارجيّ قد تكون دولة قطر "الأنسَب" للعبه، في استعادة لمشهد "اتفاق الدوحة" بالحدّ الأدنى وفق ما يعتقد كثيرون.
لعلّ ما عزّز هذا الاعتقاد تمثّل في حضور الملف اللبناني على "أجندة" الحوار الاستراتيجي القطري الأميركي، وهو ما قيل صراحةً في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزيرا الخارجية القطري والأميركي، لينتهي الأسبوع على زيارة "جديدة" لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل إلى الدوحة، ما فتح باب الأسئلة على مصراعيه، فهل دخلت قطر فعلاً على خط الأزمة اللبنانية؟ وهل من اتفاق دوحة جديدة يُطبَخ في الأفق؟!.
الأكيد بدايةً، بحسب ما يؤكد العارفون، أنّ أيّ تطوّر جدّي على خط ملف الرئاسي غير مرتقب في المدى المنظور، لا على المستوى الداخلي ولا الخارجي، في ظلّ "إجازة عالمية" شبه مُعلَنة عن كلّ الملفات والاستحقاق، يحلو للبعض وصفها بـ"هدنة كأس العالم"، حيث إنّ لا حديث يعلو هذه الأيام على حديث كرة القدم، تترافق مع "جمود داخلي" يتمثّل في إطفاء كلّ "المحرّكات" لفترة لا يُعتقَد أنّها ستنتهي قبل فترة الأعياد في الشهر المقبل.
فعلى المستوى الداخلي، يبدو واضحًا أنّ كلّ المبادرات انتهت عمليًا، إما لأنّها فشلت بكلّ بساطة، كحال مبادرة "الإنقاذ" الرئاسية التي أطلقها نواب "التغيير"، فانتهت بتشتّتهم وانفراط عقدهم، بل انقسامهم إلى مجموعات متباينة، لا خيار موحّدًا يجمعها، وإما لأنّها اصطدمت بالاعتراضات والتحفظات، كتلك "الحوارية" التي اعتزم رئيس المجلس النيابي نبيه بري إطلاقها، قبل أن يغضّ النظر عنها، محمّلاً المسؤولية لـ"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية".
وبغياب المبادرات، فإنّ القوى السياسية على "تصلّبها" الذي يحول دون إنجاز الاستحقاق الرئاسي، فمعسكر "حزب الله" المنقسم بين سليمان فرنجية وجبران باسيل، لا يزال متمسّكًا بالأوراق البيضاء، تفاديًا لـ"الإحراج" ربما، أو بانتظار نضوج ظروف ما، فيما المعسكر المناهض له مصرّ على المضيّ بخيار ميشال معوض، وهو يدرك سلفًا أن حظوظه "منعدمة"، وأنّ "سقفه" الحصول على 50 صوتًا، وهو ما لم يحصده بعد رغم كلّ شيء.
وإذا كان هناك من اعتقد أنّ قرارات المجلس الدستوري ستغيّر شيئًا في الموازين، فإنّه أدرك بالتأكيد "استحالة" ذلك، فالنائبان الجديدان قد يرفعان من "رصيد" الورقة البيضاء ليس إلا، علمًا أنّ أحدهما، فيصل كرامي، محسوب على خط "حزب الله"، ولو حرص على "التمايز"، فيما الثاني لا يزال يخضع لفحص "الحمض النووي" إن جاز التعبير، ولو أنّ تصريحاته الأولية أوحت بـ"استقلالية" يتوخّاها، حتى عن "التغييريين"، الذين اعتبر أنّهم بحاجة لـ"تغيير".
وسط هذا المشهد المعقّد، يبقى "الرهان الداخلي" كالعادة على الخارج، وكأنّ الأفرقاء يريدون "التسليم" بأنّ تحريك الملف الداخلي لا يمكن أن يتمّ من دون الاستعانة بأيادٍ دولية، فعاد الحديث عن دور قطري موعود، بالتوازي مع حراك فرنسي سعودي إقليمي لم يتوقف، علمًا أنّ بعض الأوساط "بشّرت" بزيارة متوقعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان الشهر المقبل، قد يحمله معه فيها شيئًا ملموسًا، أبعد من زيارة "روتينية" لقوات اليونيفيل.
بالنسبة إلى الدور القطري، فإنّ الحديث عنه بدا "مشروعًا" هذا الأسبوع، بعدما حضرت أزمة لبنان على خط الحوار الاستراتيجي بين الدوحة وواشنطن، علمًا أنّ مراقبين يعتقدون أنّ قطر قد تكون فعلاً "مؤهّلة" للعب دور ما، باعتبار أنّها تحافظ على علاقات "متوازنة" مع مختلف الأفرقاء، بدليل الزيارات المتكرّرة للوزير باسيل إليها، بعدما أقفلت في وجهه عواصم عدّة، أقلّه منذ العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة.
وفي حين انتعشت آمال البعض بـ"اتفاق دوحة" جديدة من شأنه إنهاء الأزمة، خصوصًا أنّ الاتفاق المذكور جاء في ظلّ ظروف مشابهة، على وقع الفراغ الرئاسي الذي أعقب انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود من دون انتخاب خلف له، فإنّ هناك من يجزم أنّ وقائع اليوم لا تشبه معطيات الأمس، وأنّ الدوحة لن تتحرّك في لبنان من دون "مباركة" الرياض، خصوصًا بعد تطور العلاقات إيجابًا بينهما، وهو ما تجلى بوضوح في مونديال قطر.
من هنا، فإنّ لعب الدوحة أيّ دور في الأزمة اللبنانية، إن حصل، سيكون "منسجمًا" بالكامل مع الحراك الدولي والإقليمي، علمًا أنّ قطر التي لم تقطع علاقاتها ببيروت، وحطّ وزير خارجيتها في لبنان أكثر من مرّة في الأشهر الماضية، "تتناغم بالمطلق" مع الموقف الدولي المُعلَن من ملف لبنان، والقائم على أنّ الكرة هي أولاً وأخيرًا في ملعب القادة اللبنانيين، الذين عليهم أن يبادروا بالدرجة الأولى، وفق المقولة الفرنسية الشهيرة "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم".
في مطلق الأحوال، فإنّ الثابت أنّ "الرتابة" المهيمنة على الملف الرئاسي مستمرّة حتى إشعار آخر، وهو لن يشهد أيّ "انفراجة" قبل انتهاء المونديال وبعده فترة الأعياد، علمًا أنّ مثل هذه "الانفراجة" تتطلب نزول اللبنانيين أنفسهم عن الشجرة، والكفّ عن رفع الأسقف والتصعيد، لأنّ "تحرير" الملف الرئاسي، بسواعد داخلية أو بعون خارجي، لن يحصل إلا بالتوافق، ولو بحدّه الأدنى، الذي يتيح "تصديق" 86 نائبًا عليه، موافقة أو حضورًا!.