يعيش لبنان، منذ العام 2019، أزمة تكاد تشبه مسلسلاً يعرض على إحدى شاشات التلفزة، فبين ليلة وضحاها خسر اللبنانيون إمكانيّة الاستفادة من جنى عمرهم المدّخر في المصارف، وبات كل الموجود هو رقم يتداول على شفاههم ولا يستطيعون سحبه أو سحب مبلغ منه أياً تكن الحاجة رفاهية أو حتى ربما مرضية... عن هذه الأمور كلّها مسؤول مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة، وحده يملك أسرار النقد في لبنان.
في العام 2019، أقفلت المصارف، هرّبت المليارات، إنهارت الليرة وبقي رياض سلامة يقول "الليرة بخير"، ولدى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي هو الضابط الذي لا نستطيع الاستغناء عنه. توالت الملاحقات بحقّه في العالم وهو يؤكّد في كل مرّة أنها مجرّد إخبارات لا أكثر ولا أقلّ... وبين ما يحدث في هذا الملف بالعالم وبين ما يقوم به القضاء اللبناني تفاوت كبير.
أعلنت سويسرا، بمراسلة صريحة في العام 2020، أن سلامة "إختلس الاموال" هو وشقيقه رجا سلامة، ودلّت على 300 مليون دولار دخلت إلى المصارف اللبنانية وعادت وخرجت منها. وهنا كانت أكدت مصادر مطلعة، عبر "النشرة"، في وقت سابق أن المطلب الاساس للأوروبيين هو حركة حسابات سلامة لمعرفة أين ذهبت الأموال، لافتة إلى أنه "حتى الساعة لم يحصل الأوروبيون على شيء" وربّما لن يحصلوا.
وبالأمس فجّرت وسائل الاعلام الفرنسية "قنبلة" أخرى من عيار أكثر من ثقيل، إذ نشرت ما ورد في التحقيق بفرنسا مع صديقة سلامة آنا كوزيكوفا ووالدة إبنته. قالت كوزيكوفا للمحققين ان "سلامة مسؤول عن تحويل 246 مليون دولار من مصرف لبنان لحسابات شقيقه، واختلاس الاموال تمّ عبر مؤسسة Forry Association لرجا سلامة". ويشير التحقيق الفرنسي، انطلاقاً من الوثائق، إلى أن "التحويلات من حساب مصرف لبنان رقم 012600632009 إلى حساب forry كانت تتم بموجب عقد باطل قانونيا وبطلب سلامة"، وإلى أن هذه التحويلات لا تتطابق مع أي خدمة تؤدّيها Forry واستفاد منها سلامة وكوزاكوفا عبر شركة أسستها في قبرص باسم Forry ايضاً، وقد بررت كوزاكوفا تأسيس Forry قبرص للتسويق لانتاج المزارعين خارج لبنان، وقالت للمحقّقين ان "رياض استثمر فيها وابلغها أن شقيقه مدين له بالمال، وقال أنه ارسل مبلغ مليون دولار على 5 سنوات"، مضيفة: "الاموال التي تصل إلى Forry قبرص هي اموال رياض وشركة رجا هي التي تولت تسديدها".
ربما هذا الكلام يكاد يكون عادياً للكثيرين، لكنه في الواقع ليس عابراً أبداً، هو عيّنة مما يفعله سلامة "بالمال العام" وبأموال اللبنانيين... والسؤال هنا أين القضاء اللبناني من هذا الموضوع؟!.
في اطار التحقيقات في ملف سلامة، استدعى المحامي العام التمييزي القاضي جان طنّوس عدداً من الموظّفين الحاليين والسابقين للاستماع إلى افادتهم، وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل، الذي شغل منصب مدير العمليّات في مصرف لبنان منذ العام 1994، واحداً من هؤلاء الذين تم الاستماع اليهم وذلك بتاريخ 24/06/2022. وبحسب ما تكشف مصادر مطّلعة على الملفّ، لـ"النشرة"، "خليل تحدث عن مهام المديريّة الأساسيّة التي تكمن في الادارة المشتركة لبرنامج DMEAC، وهو مؤشر اطار لمراقبة تطور الدين العام الخارجي واصدار سندات الخزينة في السوق الأولي بالليرة اللبنانية، واصدار جداول وبيانات لمتابعة السيولة في السوق والتدخل في السوق المالي لتحقيق ثباته عن طريق ضبط الكتلة النقدية وتطور الدين العام".
افادة خليل توصف "بالخطيرة"، وربما تكشف جانباً من العمل "الغوغائي" في ادارة مصرف لبنان. إذ أكد، بحسب المصادر، أنه "لا يوجد أيّ مستند ينظّم دقائق عمل المديريّة، إلا أن هناك عدّة قرارات صادرة عن الحاكم والمجلس المركزي أو وزارة الماليّة تضع اطار عمل المديريّة"، مشيراً في محضر التحقيق معه إلى أنه "لم يسبق له أن تعامل مع رجا سلامة وهو لا يعرفه إلا بالاسم، ولم يسبق له أن شاهده في مديريته وإذا شاهده فهو لا يذكر الأمر، وهو لم يسمع بشركة "فوري" Forry بل سمع بها في الاعلام مثل كلّ اللبنانيين".
إذاً، في أوروبا تسير التحقيقات على قدم وساق وتتوالى الاعترافات، وفي لبنان القضاء اللبناني معطّل بحجة عدم انعقاد الهيئة العامة للتمييز إلى حين تعيين قضاة أصيلين.
ما يحدث في هذا الملف أقلّ ما يقال فيه إنه "جريمة ضد الانسانية"... الأموال تهرّب إلى الخارج والودائع تُحجز والعملة تنهار والشعب بنسبة 70% أصبح تحت خط الفقر. كلّ هذا ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي يصف سلامة بالضابط الذي لا نستطيع الاستغناء عنه، ووزير المالية يكشف أن "لا مستند ينظّم عمل المديريّة ولا يعرف رجا سلامة ولم يسمع بـForry".
والسؤال المطروح هنا "كيف يعقل أن مدير العمليّات في مصرف لبنان ووزير مالية البلد لا يعرف رجا سلامة ولم يسمع بـForry، وهي الشركة التي اختلست 300 مليون دولار من مصرف لبنان وقامت بتبييض الأموال بأوروبا بحسب ما ورد في المراسلة السويسرية"؟ والواضح بحسب افادة كوزيكوفا أننا أصبحنا أمام شركتي Forry؟!.