لا ينقص رئيس مجلس النواب نبيه بري الدهاء السياسي ليدرك انه لم يحن بعد وقت التقاء الافرقاء اللبنانيين الى طاولة واحدة في بيروت، ولا يجهل طبيعة الوضع اللبناني الحالي الذي يستحيل معه تنقية الأجواء من الضباب السياسي والدبلوماسي الذي يخيّم عليها لجميع الأقطاب، والوصول الى أرضية مشتركة تؤدي الى حلّ التعقيدات التي تحيط بأكثر من ملف ومنها انتخاب رئيس للجمهورية.
من هنا، كان السؤال عما اذا كان بري وقع ايضاً ضحية التدخل الخارجي ليلقى مصير دعوته الى الحوار، ما لاقته دعوة السفارة السويسرية للفرقاء اللبنانيين الى "عشاء حواري"، فكان الفشل ينتظرها لاستقبالها بالاحضان. ليس برّي سويسرا، ولا هو لاعب مستحدث على الساحة اللبنانية، بل يمكن اعتباره احد اللاعبين الثابتين الذين لا يمكن تجاوزهم على مدى عقود من الزمن، فهل كان فعلاً يتوقع التئام طاولة الحوار؟.
من السخيف الاعتقاد ان بري كان ينتظر رداً من هنا او هناك لمعرفة ان دعوته لم يكتب لها النجاح وولدت ميتة، لاسباب عدة نكتفي منها بثلاثة: التوتر الحاصل بين التيار الوطني الحر وحزب الله من جهة، وامتناع الأطراف المسيحيّة الرئيسيّة عن المشاركة بالحوار، ورفض المكوّن السني تمثيله حصراً برئيس حكومة تصريف الاعمال في ظلّ غياب قيادة سنّية تتكفل بتأمين الالتفاف السني حولها وتفويضها تمثيل الطرف السنّي او على الأقل غالبيته. من هنا، كان من الغريب إصرار بري على استكمال السعي للدعوة الى الحوار، وانما قام بذلك ليقول لمن يعنيهم (ولا يعنيهم الامر): "اللهم اشهد انني بلغت" وانه الساعي الى الحفاظ على حقوق المسيحيين وضمان تمثيلهم في المنصب الأهم المخصص لهم، وقطع الطريق على الاتهامات التي توجّه بطريقة مباشرة او غير مباشرة، للبعض حول محاولة الاستيلاء على صلاحيات رئاسة الجمهورية.
فضلاً عن ذلك، يضمن بري بهذه الخطوة، اظهار ان العرقلة الرئاسية تأتي من المعنيين مباشرة بها، أي المسيحيين الذين يتخبّطون في ما بينهم ويمنعون بعضهم البعض من إيصال شخص منهم الى رئاسة الجمهورية، فيما هو واضح النيّة في ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ويسعى الى تأمين التأييد الإقليمي والدولي له تمهيداً للحصول على التأييد المحلي.
ويدرك بري ايضاً ان الوصول الى تسوية، أي تسوية، يتطلب موافقة إقليمية ودولية غير متوافرة حالياً، على الرغم من التحرك الخجول نسبياً الذين يسجّل لبعض الأطراف الخارجية في هذا المجال، فمن الذي سيضمن تنفيذ أي اتفاق قد يصل اليه المتحاورون (في حال تمّ تخطّي كل العقبات التي تمنع وجودهم على طاولة واحدة)؟ وما الذي يملكه بري ولم يكن يملكه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي تعرض لصفعة قوية حين اتى الى لبنان شخصياً لرعاية تسوية "بالمَوْنة" على اللبنانيين الذين جمعهم تحت جناحه في قصر الصنوبر، وشاهد وعوده تذهب ادراج الريح، وكان بري احد المسؤولين عن فشل هذه المبادرة.
يبدو بري وكأنه قام بما عليه، فيما هو في الواقع أدّى دوره في سيناريو يعرف نتيجته سلفاً، ليتم تصوير هذا "الفشل" وكأنه نجاح له في العمل على احتواء الازمات، وانه غير معني بها، والتي باتت (عبر دعوته الى الحوار) مسؤوليتها تقع على سواه، لانه من خلال الدعوة الى الحوار، يكون قد نفض يديه من أي مشاركة له في الازمة التي يعيشها البلد على كل المستويات، فيكون لسان حاله انه ليس ممن تم استهدافهم بعبارة "كلّن يعني كلّن"، لانه تميّز عن غيره.
ادرك بري مسبقاً انه اياً تكن نتيجة دعوته الى الحوار، فهو الفائز فيها لانه حتى لو التأمت طاولة الحوار، لن يكون هناك من نتيجة لها ما لم تحظَ بالغطاء الخارجي المطلوب القادر على التأثير على اللاعبين اللبنانيين للوصول الى النتائج المرجوة، وهو احد اللاعبين الأكثر خبرة في هذا المجال. قد تكون نتيجة دعوة برّي الى الحوار تحولت الى نتيجة سويسرية، ولكن من المؤكد انه نفسه لن يكون سويسرياً بالمعنى المجازي للصفة...