تشهد الساحة المسيحية اليوم ضياعاً كبيراً بفعل تشتت التيارات والاحزاب المسيحية من جهة، وعدم انتظام اللعبة السياسية من جهة ثانية، وهو ما ادى الى تفلّت المسيحيين واعتمادهم طرقات جديدة قد تأخذ وقتاً حتى يعتادوا عليها. كل ذلك، في ظل غياب "الام الحنون" فرنسا عن هذا الواقع، كونها المعنية الاولى خارجياً بالمسيحيين في لبنان. صحيح ان لا خطر حقيقياً يتهدد هوية المسيحيين في لبنان او تواجدهم فيه، ولكنه خطر محدق بدورهم ونفوذهم السياسي، ولا يمكن القول ان اختلافهم في فترة الانتخابات الرئاسية هو امر عادي وطبيعي، لانه استحقاق يشق صفوف المسيحيين، الذين يطمح كل طرف سياسي منهم الى ايصال مرشحه، فالمشكلة هذه المرّة اعمق، والسبب تجربة رئيس الجمهورية السابق ميشال عون. ما حملته ولاية عون، اثبت بما لا يقبل الشك انّ المسيحيين لا يمكن ان يفرضوا حضورهم السياسي، فعون وصل الى الرئاسة بتأييد شعبي (مسيحي بشكل خاص ما عدا شريحة تشكل اقلّية)، وكان متحالفاً مع اكبر حضور سياسي وشعبي شيعي (حزب الله) وسنّي (تيار المستقبل)، وحظي بدعم مباشر من فرنسا (الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون صديق له)، ومع ذلك لم تسر الامور على ما يرام. وبغضّ النظر عن السبب الذي أدّى الى هذا الواقع الاليم، الا ان النتيجة كانت واضحة، وهي أنه يمكن لاي طرف خارجي ان يقلب الامور في لبنان رأساً على عقب من خلال اي طائفة فيه، وبالاخص الطائفة المسيحيّة.
بداية التدهور كانت عبر "انسى خيّك" التي سادت بدل شعار "اوعا خيّك"، فانقسمت اكبر كتلتين شعبيتين وسياسيتين مسيحيتين على بعضهما، فكانت بداية التراجع المسيحي عن الساحة. ادرك الطرف الخارجي المعني بتدهور الامور في لبنان انّ خطّته سلكت مسار النجاح، فأكمل عبر ضرب الاسفين بين باقي الاطراف المسيحيّة مع بعضها ومع المرجعية المسيحيّة المعنية (كل ذلك بفضل تعاون الاطراف المسيحيّة نفسها، ايّ ان الخارج وجد الارضيّة الخصبة لاكمال مشروعه). ازاء هذا الواقع، بدأ عون يفقد حضوره وقوته، وارتكز فقط الى رصيده الشعبي والتمثيلي في مجلسي النواب والوزراء، بعد ان تقطّعت الاوصال مع الطرف السنّي، وساد التوتّر المضبوط مع الطرف الشيعي.
كل ذلك يعني ان تجربة عون التي كان من المفترض ان تكون مثاليّة، لم تنجح، وهو ما سيترجم بأن ايّ رئيس جمهوريّة سيصل الى بعبدا، لن يكون افضل حالاً منه، وان القرار الاهم المتّخذ وفق ما يمكن قراءته، هو العمل على استمرار الشرخ المسيحي-المسيحي من جهة، والمسيحي-السنّي والشيعي من جهة ثانية، وها هي جبهة التيار الوطني الحر وحزب الله تتعرّض للقصف رغم ان الطرفين يعلمان ان تحالفهما ضرورة لكليهما ولو لاسباب مختلفة. والاخطر الاخطر يكمن في ان فرنسا تقف من دون ان تحرّك ساكناً على الجبهة المسيحيّة تحديداً، فمع فشلها في لملمة شتات اللبنانيين بعد تدخل ماكرون شخصياً، "غسلت يديها" من المسيحيين في هذا البلد ايضاً، مكتفية بضمان عدم تعرّضهم للاذى الجسدي، فيما لا بأس بتعرّضهم للاذى السياسي على غرار ما حصل في اتّفاق الطائف، وربما قد تعتبر باريس انه يجب تلقين المسيحيين في لبنان درساً في السياسة، يدفعهم الى التقرّب منها اكثر فأكثر واعتبارها المرجع الصالح لاستشارته قبل اتخاذ اي قرار بحجم مهم، والا فليتحمّل السّياسيون المسيحيّون ما يفعلونه، ولا مشكلة لفرنسا في ذلك، وها هي قد اتجهت الى التعاون الوثيق مع الطرف السنّي لتسيير بعض الامور، من دون ان يعني ذلك حتماً ابدال الطرف المسيحي بالطرف السنّي، ولكن توجيه رسالة قويّة سريعة مفادها انه اذا تخلى المسيحون عن فرنسا، فهي تملك ما يكفي من الاتصالات والعلاقات لنسج تحالفات جديدة مع اطراف غير مسيحيّة ولا مشكلة لديها في التخلّي عن الدعم السياسي للمسيحيين مع الابقاء على حضورهم ونفوذهم السياسي بالحد الادنى، وهنا لبّ المشكلة.