"إِنَّهُ لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ" (مزمور ٤:١٢١). قيلَت هذه الآيةُ في اللهِ القديرِ والقادرِ على كلِّ شَيء. هناك أيقونةٌ في كنيستِنا تُدعى: "العَينُ الساهِرَة". نَرى فيها الرّبَّ يسوعَ المسيحِ طِفلًا بالغًا مُستَلقِيًا كَأنَّه نائمٌ، ولَكنَّه مُتَّكِئٌ على راحَةِ يَدِه، وعَيناهُ مفتوحتانِ تَنظُرانِ إِلَينا.
الكلامُ على هَذِهِ الأيقونةِ نادرٌ! لَكِن هناك كلامٌ لكاتبِ الأيقوناتِ Simeon Metaphrastes (ق١٠م)، يقولُ فيهِ أنَّ الأسدَ ينامُ دونَ أن يُغمِضَ عَينَيه. ومِنَ نبوءاتِ العَهدِ القديم عن مَجيء المُخَلّص وَتَشبيهِهِ بالأسد، نَقرأُ ما تَنَبَّأ به يعقوبُ لبنيه الاثنَي عَشَر حينَ دَنَت مِنهُ يَدُ المَنِيَّة، فَهؤلاءِ هم الذين خرجَ من كلِّ واحِدٍ منهم سِبطٌ، عُرِفوا بـِ "أسباط إسرائيل الإثني عشر".
تَنَبَّأَ البَطرِيَركُ يعقوبُ لابنِهِ يَهوذا قائِلًا له: "يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ، مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي، جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ. مَنْ يُنْهِضُهُ"؟(تكوين ٩:٤٩).
الأسدُ هُنا يَرمزُ إِلى المسيحِ الذي سيَأتي مِن سِبطِ يَهوذا. هذا ما ذَكَرَهُ في ما بعد متّى الإنجيليّ عندما كَتَبَ نسبَ يسوع في مَطلَعِ إِنجيلِه. ولكي نَفهَمَ نبوءَةَ يعقوبَ بِشكلٍ جَليٍّ، لا بُدَّ لنا أن نَقرأَ كامِلَ نبوءَتِه، حيثُ سنَجِدُ في (تكوين ٨:٤٩)، نبوءة تَتَكَلَّمُ عن كلِّ الأسباطِ، ومن بَينِهِم مَن سيَسجدونَ ليهوذا: "يهوذا إيّاكَ يَحمَدُ إِخوَتَكَ، يَدكَ على قَفا أَعدائِك، يَسجُدُ لكَ بنو أَبيك". وَحدهُ المسيحُ الآتي مِن سِبطِ يهوذا ستَسجدُ له جميعُ الشعوب. وانتِصارُ الرّبِّ يسوعَ على الشيطانِ هوَ المقصودُ بوضعِ يَدِهِ على قَفا أَعدائِه.
مَع هذا الانتِصارِ والغَلَبَة، هل نُحافِظُ بعدُ على السُجودِ للشيطان!؟ بالطبع لا. وَلَكِن للأَسف هذا ما يَحصَلُ عِندما لا نَتوبُ عن خطايانا، فنَبقى عَبيدًا للخطيئة التي مِن أجلِ أَن يُحَرِّرَنا الرَبُّ منها قد تَجَسَّد!.
أمّا بِالنِسبَةِ لأَيقونَةِ "العَينِ الساهِرَة"، فَعُنوانُها باللّغَةِ اليونانِيَّةِ هُوَ "anapeson"، وَهي الكَلِمَةُ المُستَعمَلَةُ في نُبوءَةِ يَعقوب في التَرجَمَةِ السبعينيّة لفِعلِ "رَبَضَ". فَالمَسيحُ الغالِبُ رَبَضَ بِإِرادَتِه ليَتَصَيَّدَ عَدُوَّ الإنسان، أيّ إِبليس، وَيفتَرِسَه. الآيَةُ نفسُها تقولُ: "مَنْ يُنْهِضُهُ؟" وجوابها: لا أحد! فَهُوَ يُنهِضُ نفسَهُ بنفسِهِ بذاتِ سُلطانِه. لذلك أجابَ الربُّ يسوعُ اليهود قائلًا: "انْقُضُوا هَذا الهيكَلَ، وفي ثَلاثَةِ أَيّامٍ أُقيمُه"(يوحنّا ١٩:٢).
تَقَدَّمَ المسيحُ إلى الصَليبِ بِمِلءِ إِرادَتِهِ ليَفتَديَ البَشَرَ أَجمَعين. هذا تَمامًا ما أشارَ إليهِ الربُّ يَسوعُ حينَ قال: "خِرافي تَسمَعُ صَوتي... وأيضا: أنا أضَعُ نفسي لآخُذَها..."(يوحنّا ١٦:١٠-١٧). إنَّ فِعلَ "أَضَعُ"، المُستعملَ هنا (في اللغة اليونانيّة) هو نَفسُهُ فِعل "يَبذِلُ" في الإصحاحِ نَفسِهِ: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"(يوحنّا ١١:١٠).
فلا عَجَبَ إذًا أَن تَظهرَ أيقونةُ "العَينِ الساهِرَة" وتَكونَ بِمثابَةِ أَيقونَةِ عيدِ الميلادِ في زَمَنِهِ. فَتَمتَدُّ مِن حَدَثِ الميلادِ إلى الصَلبِ فَالقِيامَة. هذا ما تُظهِرُهُ الخِدمَةُ الليتورجِيَّةُ لعيدِ الميلاد بِشَكلٍ واضح، خاصَّةً أَنَّ لَحنَ تَرتيلَةِ "اليوم يولَدُ مِنَ البتول" هُوَ نَفسُه لَحنُ ترتيلةِ "اليوم عُلِّقَ على خَشَبَة". فما تَقولُهُ نُبوءَةُ يَعقوبَ آنِفًا: "مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي"، هو صعودُ المسيحِ على الصليب.
وَيُكمِّلُ يعقوبُ نبوءَتَه فيقول: "لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ"(تكوين ١٠:٤٩). أي الذي يأتي مِن نَسلِ يهوذا ويُعطي السلامَ، هُوَ المسيح.
يتابِعُ يعقوبُ نبوءَتَه قائلًا: "رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ، غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَهُ"(تكوين ٤٩: ١١). هذا تَمامًا ما نراهُ في حادثَةِ دخولِ المسيحِ إلى أورَشَليمَ –الشعانين– حينَ كانَ الشعبُ يصرخُ: "أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيل"(يوحنّا ١٣:١٢).
دخل يسوعُ عالَمَنا لِيُخَلِّصَنا. هذا ما تعنيه كلمة "أُوصَنّا" أَيّ "خَلِّصنا"، وها هُوَ يَدخلُ أورشَليمَ لِيَتَعَرَّشَ على الصَليبِ ويَغسِلَنا بِدِمائِهِ الطاهِرَة.
هَذا هُوَ المَجدُ الإلهيُّ الذي وَهَبَنا إِيّاهُ الله.
فقد شَرَحَ لنا الآباءُ القِدّيسونَ أنَّ نُبوءَةَ يَعقوبَ الأخيرةَ قد استَشْهَدَ بِها الرّبُّ يسوعُ أمامَ تلاميذِهِ قَبلَ أَن تَمَّمَها، وَكانَ ذَلِكَ في العُلِّيَّةِ قَبلَ يومِ الصَلبِ: "أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: "هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ"(مرقس ١٤: ٢٣ – ٢٤).
فَكم هيَ رَهيبةٌ اللحظَةُ التي يَقولُ فيها الكاهِنُ هذا الكلام في القدّاسِ الإلهيِّ حين يتمِّمُ السِرَّ بِالروحِ القُدُس!.
هَكذا هِيَ الأيقونةُ دائِمًا، تُدخِلُنا في عُمقِ اللاهوتِ لأَنَّها وَليدَتُه. وهَكَذا يَجِبُ أن تُقرَأَ وَتُفهَم.
في أَيقونَةِ "العَينِ الساهِرَة" نَرى الرّبَّ يسوع مُستَلقِيًا في الملكوتِ وعَيناهُ شاخِصَتانِ إِلَينا. فهُناكَ أَيقوناتٌ تُظهِرُهُ بِمُفرَدِه، وأُخرى مَع والدَةِ الإلهِ وَمَلاكٍ أَو أَكثَرَ مِن مَلاكٍ يُعطينَه صَليبًا. كما أنَّ هُناكَ أَيقوناتٌ تَظهَرُ فيها عيناهُ نِصفَ مَفتوحَتَين.
كَذلكَ تأخذُ هذه الأيقونةُ معناها في يومِ السَبتِ العظيمِ المُقدَّس، أي قَبلَ عيدِ الفِصحِ مُباشرَةً عندما نُرَتِّل: "هَلُمَّ لِنعايِنَ حَياتَنا (الذي هُوَ المسيحُ) مَوضوعَةً في قَبرٍ لتُحيي الموضوعينَ في القبور. أَقبِلوا لِنُشاهِدَ اليومَ البارِزَ مِنَ يَهوذا راقِدًا وَنهتفَ نَحوهُ نَبَوِيًّا: جَثَمتَ وَنِمتَ كَأَسَدٍ فَمَن يُقيمُكَ أَيُّها المَلِك، لكن قُمْ بِسُلطانِكَ الذاتي يا مَن دَفَعتَ ذاتَكَ مِن أَجلِنا بِاختِيارِكَ يا رَبُّ المَجدُ لَك." فَهذِهِ القِطعةُ تَربطُ نبوءَة يعقوبَ بِعملِ يَسوعَ الخلاصيّ بِوضوحٍ تامّ.
يسوعُ هوَ الغالِبُ دائِمًا. لِذلكَ يَخرجُ الكاهنُ مِنَ الهيكلِ في يومِ السبتِ العظيمِ المقدَّس أيضًا، ويَرشُّ وَرَقُ الغار في الكنيسةِ علامَةَ الانتِصارِ وهوَ يُنشِدُ: "قُمْ يا اللهُ واحكُمْ في الأرضِ لأنَّكَ تَرِثُ جَميعَ الأُمَم".
في الكَنائسِ اليونانِيَّةِ القديمَة نُشاهِدُ أَيقونَةَ "العَينِ الساهِرَة" فَوقَ البابِ الغَربيّ، وذلكَ إشارةً لإعلانِ داوودَ النبيّ في مَزاميرِه: "الرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ"(مزمور٨:١٢١).
خلاصةُ القَول، إنَّ عينَ الرّبِّ يسوع المسيح عَلينا دائِمًا، فهو لَن يَتركَنا أبدًا! فما علينا إلّا أن نرفَعَ قلوبَنا إلى فَوق، لنبادِلَهُ هذه المحبَّة، فَيَتِمَّ اللقاء.
إلى الرّبِّ نَطلُب.