مع بداية العام الجديد، وعلى وقع الاحتفالات بعيد رأس السنة، التي أصرّ اللبنانيون على إحيائهم جريًا على عادتهم، رغم كلّ الظروف، لا لإثبات "حبّهم للحياة" فحسب، ولكن كرسالة "صمود ومقاومة" في وجه كلّ المتغيّرات، كثرت التمنّيات، وربما الأحلام، بأن تحمل 2023 معها الخير والسلام والسعادة للبنان واللبنانيين، وأن تكون سنة "الإنقاذ"، لا تلك التي تكرّس "الانهيار الشامل" الذي قد لا ينفع أيّ ندم من بعده، بل قد لا يبقى وطن.
لكنّ الأمنيات شيء والواقع شيء آخر، فالعام الجديد ينطلق على أزمات "متوارثة" من العام الماضي، وتنتظره استحقاقات قد تكون مفصليّة في سياق الأزمة التي بلغت ذروتها منذ زهاء ثلاث سنوات، على رأسها انتخابات رئيس الجمهورية "المرحَّلة" من السنة المنصرمة، والتي يبدو أنّها تنتظر "معجزة"، أو ربما "كلمة سرّ" لم يَحِن أوانها بعد، من الخارج الذي لم يعد لبنان أصلاً مُدرَجًا على سلّم أولوياته، برأي الكثير من المعنيّين.
وعلى وقع "فراغ" في قصر بعبدا، قد لا يكون الأول ولا الأخير، إلا أنّه بلا شكّ الأخطر في تاريخ لبنان الحديث، يبدأ العام الجديد مثقلاً بالهموم والهواجس، ولكن قبل ذلك بالغموض والضبابية، في ضوء غياب حكومة أصيلة تملأ الفراغ، وخلاف دستوري كبير حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، تعمّق بعد الاجتماع الذي عقدته أخيرًا، وأحدث "عاصفة لم تخمد" بعد، اهتزّ معها "تفاهم مار مخايل" أكثر من غيره.
لكنّ كلّ هذه الاستحقاقات، على أهميتها، تبقى "تفاصيل"، أمام استحقاق "الدولار" الأهمّ، فسعر الصرف الذي تراجع على وقع "المسكّنات" وصل إلى أعتاب مستوى الـ50 ألف ليرة، وثمّة من يبشّر بأرقام "مضاعفة" قد يبلغها في فترات غير بعيدة، علمًا أن استحقاقًا "ضاغطًا" على خطّه لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، في ضوء انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في أيار المقبل، وسط علامات استفهام بالجملة عن مرحلة ما بعده.
لكن، قبل الغوص في استحقاقات وتحديات 2023، قد يكون من المفيد استرجاع "رزنامة" 2022، التي تركت إرثًا "ثقيلاً" للعام الجديد، لن يكون من السهل عليه أن يتعامل معه، فالعام الذي سيطر الفراغ الرئاسي على ربعه الأخير، كانت الانتخابات النيابية قد استحوذت على ثلثه الأول بامتياز، ولو أنّ البلاد عاشت "ضبابية" غير مسبوقة قبلها، وصلت إلى حدّ "التشكيك" بإجرائها، حتى قبل أيام معدودة من موعدها المفترض.
وإذا كانت الانتخابات النيابية التي وُصِفت بـ"المفصليّة والاستثنائية"، خيّبت آمال الكثيرين ممّن كانوا يمنّون النفس بإسقاط الطبقة السياسية عبر صندوق الاقتراع، فجاءت النتيجة لتكرّس "حيثيّة شعبيّة" للأحزاب التقليدية، رغم بعض الخروق "التاريخية" التي حقّقتها في بعض المناطق التي كانت "عصيّة" على التغيير، فإنّ "الخيبة" شملت حتى أولئك النواب الذين صُنّفوا "تغييريين" و"ثوريين"، فبدا أداؤهم ضائعًا وباهتًا في أحسن الأحوال.
وإذا كانت هذه الانتخابات أفرزت برلمانًا بلا أكثرية واضحة لأيّ معسكر، وهو ما انعكس "شللاً" في الاستحقاقات الكبرى، قد يمتدّ للسنوات الثلاث اللاحقة، فإنّها لم تمرّ بلا تداعيات "ثقيلة" على هامشها، قد يكون أكبرها تعليق رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري مشاركته في الحياة السياسية، تعليق يبدو أنّه مستمرّ حتى إشعار آخر، رغم كلّ التسريبات التي ألمحت إلى عودته بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، وهو ما لم يحصل.
أما انقضاء ولاية عون، فبدل أن يكون مدخلاً إلى تداول "سَلِس" للسلطة، إذا به يُدخِل البلاد في سلسلة أزمات سياسية ودستورية، فلا رئيس انتُخِب، على وقع "زحمة" مرشحين مُعلَنين ومُضمَرين، لا تبدو حظوظ أيّ منهم واضحة، ولا حكومة شُكّلت بعد الانتخابات لتستلم مجتمعة صلاحيات الرئيس، لتبقى البلاد "رهينة" حكومة تصريف أعمال، يختلف الأفرقاء على حجم "النفوذ" الذي تمتلكه، بل على قدرتها على "الحكم".
وعلى الأزمات نفسها تقريبًا، ينطلق العام الجديد، فـ"مسرحية" الانتخابات الرئاسية في مجلس النواب مرشحة للعودة بموسم جديد بدءًا من منتصف كانون الثاني، لتبقى الأنظار "منصبّة" على الخارج، وسط تسريبات متواصلة عن مبادرة قطرية قد تبصر النور في المدى المنظور، بعد دور لافت لعبته الدوحة في الأسابيع الأخيرة، بالتنسيق مع بعض العواصم المعنية بالملف اللبناني، من باريس إلى واشنطن والرياض.
وفيما لا تزال خطوط الملف الرئاسي "مسدودة" برأي كثيرين، خصوصًا في ضوء "الفيتو" الذي يرفعه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل في وجه المرشحين المصنَّفين على أنهم "الأوفر حظًا"، من قائد الجيش جوزيف عون، إلى رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، فضلاً عن النائب ميشال معوض، فإنّ أزمة "الحكومة" تبدو مستمرّة هي الأخرى، على وقع التسريبات عن "نيّة" رئيسها نجيب ميقاتي بالدعوة لجلسة جديدة قريبة لها.
وعلى هامش أزمة الحكومة، التي تتّجه فيها الأنظار إلى موقف "حزب الله" خصوصًا، يبقى تفاهم "مار مخايل" بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" بدوره، محور الاهتمام، خصوصًا أنّ باسيل أنهى العام بـ"تصعيد كلامي" جديد بقوله إنه بات يقف على "رجل واحدة"، في ظلّ أصوات تتصاعد داخل "التيار" وخارجه، لا للدعوة إلى "تطوير التفاهم" فقط كما تقول القيادات، بل إلى "سحبه من التداول"، وصولاً إلى "نعيه رسميًا".
بلا أفق، يبدو العام الجديد، العالق بين خيارين لا ثالث رماديّ اللون لهما، وهما الانهيار الشامل الذي يقضي على كلّ شيء، والإنقاذ التدريجي الذي من شأنه فتح أبواب الأمل، فالأزمات "المتوارثة" أكبر من قدرته على التحمّل، والحلول "المفقودة" تتقدّم، ما ينذر بجولات "كباش" جديدة مطلع العام، لن يكون "جنون الدولار" بعيدًا عنها، لكنّ فسحة الأمل تبقى موجودة رغم كلّ شيء، ولو تطلبت هبوط "الوحي" على المسؤولين، ما يعدّه كثيرون "سابع المستحيلات"!.