لا تنتطفئ أنوار الميلاد إلّا على الصليب، لتعود وتشرق قيامة من بين الأموات. هذا هو التجسد، جسر عبور لكل إنسان في أي زمان ومكان، وهذه هي دعوة كلّ معمد أن يشهد له في كل حياته. لقد شع نور عقل جوزف راتسنغر وإيمانه وشهادته طوال حياته، وتوجت في تواضع عقله أمام عظمة إيمانه بخلافة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، على كرسي بطرس في روما. هو من أعلن استقالته استعدادًا لملاقاة الرب الديان، وبعد أن عبّر عن عجزه الصحي في إتمام الواجبات الملقاة على عاتقه. وآخر ما كتبه في 22 شباط الماضي يتوّج دعوة حياته "سأقف قريبًا أمام القاضي الأخير. فحين أنظر إلى حياتي الطويلة، قد تكون لديّ لحظات من الخوف والرهبة، إلّا أنني أؤمن تماما بأن الرّب ليس فقط الديّان العادل، بل هو أيضًا الصديق والأخ الذي تحمّل هو ذاته أخطائي. لذلك فإلى جانب كونه قاضيًا هو أيضًا محام. حين أفكر في الدينونة، ألمس نعمة كوني مسيحيًّا، وذلك يهبني المعرفة، بل وأكثر من هذا، الصداقة مع قاضي حياتي، ويمكّنني من المرور بثقة عبر باب الموت المظلم". بهذه الثقة تمتم بآخر انفاسه على هذه الفانية "أحبك يا سيدي" كلمات تختصر مسيرة حياة.
زار البابا بندكتس السادس عشر لبنان من 14 إلى 16 أيلول 2012، وقد اختار لبنان لتوقيع وتسليم الإرشاد الرسولي للمجمع الخاص لسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط، لما في نظره دور لهذا البلد فقال يوم استقباله: "إنَّ التعايش السَّعيد، اللُّبنانيّ كُلّيًّا، يجبُ أن يُظهِرَ للشَّرقِ الأوسط بأكمله ولباقي العالم أنّه من المستطاع إيجادُ داخلِ أُمةٍ ما التّعاون بين مختلفِ الكنائس، وكلّها أعضاءٌ في الكنيسة الكاثوليكيِّة الواحدة، بروح مشَارَكَة أخويِّة مع المسيحيِّين الآخرين، وفي الوقت ذاته، التّعايش المشترك والحوار القائم على الاحترام بين المسيحيِّين وإخوانهم من أديان أخرى. تعرفون مثلي أنَّ هذا التّوازن، الَّذي يُقدَّمُ في كلِّ مكان كمثال، هو في منتهى الحساسيِّة. وهو مهدَّدٌ أحيانًا بالتّحطّمِ عندما يُشَدُّ كَوَتَر القوس، أو عندما يخضع لضغوطٍ، غالبًا ما تكونُ فِئَويَّةً، أو حتّى ماديّة، معاكسة وغريبة عن الإنسجام والعذوبة اللِّبنانيّين. وهنا ينبغي إظهار الإعتدال الحقيقيّ والحكمة الكبيرة. ويجب أن يتغلَّبَ العقلُ على العاطفةِ الانفراديِّة لتعزيز الخير العام للجميع." وأضاف "إنَّ التّوازنَ اللُّبنانيّ الشَّهير، والرَّاغبَ دائمًا أن يكونَ حقيقةً واقعيِّةً، سيتمكّنُ من الاستمرارِ فقط بفضل الإرادة الحَسَنَة والتّزام اللِّبنانيِّين جميعًا".
في لقاء السلطات المدنية وجه البابا بندكتس السادس عشر نداءً مازال صالحًا ليومنا "يمكنُ أن ينموَ التّفاهمُ الجيّد بين الثّقافاتِ والأديان، والتّقديرُ بدون استعلاء طرفٍ ما على بقيِّةِ الأطراف، واحترام حقوق كلٍّ منها. في لبنان، المسيحيّة والإسلام يعيشان في نفس الفسحة منذ قرون. ليس نادرًا أن نجدَ أشخاصًا من الديانتين يحملون اسم العائلة نفسها. إذا كان ذلك ممكنًا في عائلة واحدة، لماذا لا يكون على صعيد المجتمع بأكمله"؟.
يستذكر اللبنانيون البابا القديس يوحنا بولس الثاني لقوله: "لبنان أكثر من وطن إنّه رسالة" ويستغيب ما قاله البابا بندكتس السادس عشر "لبنان مسؤوليّة... ومدعو أن يكون مثالًا".
لطالما عبر الكاردينال جوزيف راتسنغر وقبل أن يصبح بابا الكنيسة، وخلال سدّته الرسولية وبعد استقالته حبه للشرق وللبنان على وجه الخصوص، وكان يرسل مساعدات من خلال راهبة المانيّة إلى لبنان، وكم كان يسأل الرهبان الدارسين في روما عن هذا البلد وحالة أهله ويرفع صلواته ليحلّ فيه السلام.
أيّها البابا الصاعد إلى بيت الآب، فكلماتك وصلواتك من أجل هذا البلد لم تتحقّق، فمن عليائك وأمام منبر الديان اطلب لوطننا السلام.