حين كانت العلاقات بين سوريا والعالمين الغربي والعربي في افضل احوالها، كان التفويض الغربي لسوريا في الملف اللبناني يجيز لها التحرك كما تشاء وفرض وصايتها وفق رغبتها ومصالحها، وانتظر لبنان في حينه الاتفاقات التي تعقد بينها وبين الدول العربية لتمرير الأمور وتسييرها وفق ما يرضي الجميع (الا اللبنانيين بطبيعة الحال)، وفي الفترة الأخيرة في تلك الحقبة كان الخلاف مع السعودية قد فرض نفسه، وكان التقارب السوري- السعودي (س-س) هو المطلوب لاعادة الأمور الى نصابها في لبنان.
بعد حقبة الخروج السوري من لبنان، والدخول في متحولات جديدة في المنطقة، انتظر البلد التقارب الإيراني-السعودي ليحمل معه الامل بفك العقد اللبنانية، وحتى لو لم يتم الاتفاق بين البلدين، فإن التقارب او التوافق على تليين بعض الأمور كان هو الكفيل بأن ينجح بمباركة غربية حتماً. اما اليوم، فاللبناني ضائع، بكل ما للكلمة من معنى، اذ يبدو ان الغرب لم يتفق بعد على توكيل الملف اللبناني الى جهة واحدة لتقوم بالتفاوض وتعرف ممن يجب التقرب وحصول التقارب للخروج من هذه الازمة. فقد قيل ان الفرنسيين هم الذين يتولون اليوم الملف اللبناني، ولكن هذه المقولة اثبتت في اكثر من محطة ومناسبة انها غير صحيحة، ولمن يشكك في هذا الامر فما عليه الا سؤال الرئيس الفرنسي نفسه ايمانويل ماكرون عن الصدمات والخيبات التي تلقاها في السنوات الأخيرة من الملف اللبناني رغم كل الجهود التي بذلها والتي اعتقد انها ستعود عليه وعلى بلاده بالفائدة، ان في الداخل الفرنسي او على صعيد تعزيز الحضور الإقليمي.
وفي عودة الى الواقع الراهن، أي اتفاق يجب ان ينتظره لبنان للبدء بمسيرة الخروج من الازمة؟ هناك من يعوّل على التحرك الأميركي الذي نشط في مسار الترسيم الحدودي البحري، وفي مسارات أخرى معيشية وحياتية، ولكن وفق ما هو معروف عن السياسات الأميركية، فهي تعمل وفق مصالحها وليس وفق مصالح الآخرين، وهو امر جيد بالنسبة لها وسيء للباقين، وبالتالي فإن الدور الأميركي وفق ما يفيد مطلعون على الاحداث، يقتصر على المراقبة وإعطاء الموافقة حين تنضج الأمور، ولن تغرق في وحول الملف اللبناني السياسية والعسكرية، على الرغم من إصرارها على عدم الوصول الى الفلتان الشامل في لبنان.
على الصعيد الفرنسي، يفيد المطلعون انفسهم ان الفرنسيين لن يفرطوا بالورقة اللبنانية، ولكنهم عاجزون وحدهم عن ابتكار الحلول وترويجها والسير بها، خصوصاً في ظل المعاناة الكبيرة التي تعيشها أوروبا على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها على القارة العجوز التي تهدد بتشتيت وحدة الأوروبيين.
على الصعيد العربي، لم يعد لسوريا الحضور الذي كان سابقاً، وهي تعتمد على الروس لتسيير شؤونها الخارجية، وما بداية الانفتاح العربي عليها من جديد سوى تجسيد للجهود الروسية في هذا المجال، ولكن لا يمكن التعويل على دور رئيسي للسوريين سوى من باب تنفيذ سيناريو موضوع سلفاً وتأدية الدور المطلوب منهم في هذا المجال. اما السعودية، فهي "ضائعة" بدورها لانها تشعر ان الورقة اللبنانية تنساب من بين يديها وهي لا ترغب بذلك، وقد فقدت المرجعية السنية السياسية التي كانت تحضر من خلالها، ويبدو انها لا تزال عاجزة عن تزكية شخصية يجتمع حولها اهل السنّة في لبنان، وهو موضوع حساس ويقوّض من حضورها على الساحة اللبنانية.
وفي ما خص الوضع الإيراني، فوفق المتابعين، لا تزال الأمور تراوح مكانها، لان الإيرانيين مشغولون بموضوع الاتفاق النووي الذي يتأرجح ويترنح، ناهيك عن المشاكل الداخلية التي تعترضهم من حين الى آخر، وصراعهم ايضاً على توسيع نفوذهم في المنطقة، فيما التقارب مع السعودية يسير بخطى بطيئة ولكن ثابتة.
وعليه، قد تكون المرة الأولى التي لا يعرف فيها اللبنانيون الوجهة التي يجب عليهم التطلع اليها لاستشراف الوقت اللازم للبدء من الخروج من الازمة، ولذلك تكثر ايضاً توقعات المسؤولين الدوليين والعرب (بشكل غير مباشر)، حول المدة المتوقعة لانتخاب رئيس للجمهورية وبداية مسيرة التغيير المطلوبة. ولكن يعتبر المتابعون انه من المنطقي متابعة الحركة الفرنسية كونها المعنية اكثر من غيرها بالملف اللبناني بشكل مباشر، على امل ان تتضافر المعطيات الأخرى وتسرّع من الخطوات الإيجابية المطلوبة لوضع لبنان على مسار الحياة الطبيعية مجدداً.