ليست المرة الاولى التي تضيع فيها حقوق الشهداء في لبنان، وللاسف يبدو اننا مستمرون في المسار نفسه، الذي يضمن عدم حصول الشهداء في المستقبل ايضاً على حقوقهم.
رؤساء الاحزاب والتيارات السياسية والمسؤولون في لبنان يعلمون، وفق خبرتهم التي تمتد لعقود طويلة من الزمن، صناعة الدهاليز ويجب الاعتراف انهم بارعون فيها، وهم لا يتورّعون عن إدخال هذا المفهوم الى كل اجسام الدولة بما فيها الجسم القضائي. وهذا تماماً ما نعيشه اليوم في قضية انفجار مرفأ بيروت بعد اكثر من سنتين ونصف على هذه المأساة التي هزت العالم من دون أن يكترث لها المعنيون في لبنان.
بين الحين والآخر، يتحرّك اهالي الشهداء الذين، وللاسف، ذاقوا اغراء السياسة فانقسموا على قضيّة وحدتهم، جمعهم فيها الاسى والحزن على فقدان احباء لهم. وبعد كل تحرك، تكثر المواقف والتصريحات من هنا وهناك، وتتحول القضية من مطالبة بالسير في القضية عبر القضاء والاسراع في البت بها، الى المطالبة باطلاق بعض الشبّان الذين شاركوا في التحرّك، والى فرصة للبعض كي يمعن في تضييع البوصلة عبر تصريحات حقّ يراد منها باطل. وهكذا، تبقى القضية في عمق الدهليز الذي وجدت نفسها فيه، من دون القدرة على ايجاد المخرج، الى ان تبرز قضية اخرى (سياسية، اقتصادية، صحية، امنية...) تسرق وهج الاهتمام وتصبح المشكلة الاولى على سلّم المشاكل اللبنانية المتجددة.
هي لعبة سمجة بين السياسة والقضاء، فحين تتحلحل سياسياً تغدو الحلول القضائيّة عقداً يصعب فكّها، وحين تتحلحل قضائياً تنبري السياسة لوضع العقد الكفيلة بعرقلة أي تقدّم في المسار الطبيعي للامور. وبين هذا وذاك، يدفع الشهداء انفسهم الثمن اذ يموتون مرّتين، فيما شارك الجميع في جنازتهم بمن فيهم المعرقلون، ويبكون عليهم في كل فرصة ممكنة، في أداء تمثيلي قلّ نظيره.
كل المؤشرات تفيد بأنّ المسألة لن تصل الى خواتيمها القانونيّة، من عدم التجاوب الدولي مع التحقيقات والسكوت الجامع على الممارسات التي تشهدها الساحة اللبنانيّة في هذا المجال، الى العقد اللامتناهية التي توضع بين السياسة والقضاء والتي تضمن عدم حصول أيّ تقدم ملموس، الى الانتقال من دعوى الى اخرى ومن قضيّة قضائيّة الى اخرى (على سبيل المثال لا الحصر: الادّعاءات على وزراء ومسؤولين سابقين، صحة او عدم صحة تعيين قاضٍ رديف، وضع المحقّق العدلي في القضيّة القاضي طارق البيطار في حجرة التجميد وغياب الكلام عنه تمهيداً لنسيانه...). انها حلقة مفرغة يدور حولها الجميع، مدتها الزمنية بضعة اشهر قبل ان تعود الى النقطة التي انطلقت منها، بزخم جديد ومطالب جديدة لا طائل منها سوى تأخير البت بالملف قدر الامكان.
مصادر متابعة للملفّ تكاد تجزم بأنّ نهايته لا تلوح في الافق، وان الرهان لدى المعنيين يكمن في احداث خرق في الانتخابات الرئاسيّة، عندها تكون بداية نهاية الملفّ، ليس وفق ما يشتهيه الشهداء، انما كما يريده المعنيون، لانّ البلاد ستنتقل بمجملها الى مرحلة ثانية وستتكدس الملفّات التي تعتبر اولوية على حساب هذا الملف، ويتم الاكتفاء عندها بالاحفال بذكراه وتكريم الشهداء شكلياً بعد الفشل الذريع في تكريمهم بالعمق ووفق ما يجب القيام به عبر الكشف عن الحقيقة والمتسبّبين بهذه الكارثة ومعاقبتهم وفق ما تنص عليه القوانين. وعليه، قد تكون الانفراجات في الملفّ الرئاسي والتي باتت منتظرة، محطّة اولى على طريق ادخال قضيّة انفجار المرفأ الى سجن النسيان لتنفيذ حكم سياسي صدر وتعقيدات قانونية في الملعب القضائي، وتتلاشى من الاذهان شيئاً فشيئاً ولايبقى منها الا ذكرى مؤلمة وبقعة سوداء على صفحة المسؤولين والقضاء في لبنان.