حصل الصراع في اوروبا، في نفس المكان الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية بعد حوالي ثمانين عاماً. ولنفس الأسباب التي أدّت الى اندلاع الحرب الكبرى الثانية، انطلقت الحرب الروسيّة-الاوكرانية بعد حزمة عقوبات هي نفسها التي طالت المانيا بالأمس. نعم التاريخ يعيد نفسه بعد ثمانين عاماً ولكن مع لاعبين جدد كبار... فهل ستكون الثالثة الكبرى؟.
في الأمم المتحدة يتراشق اللاعبون الغربيّون تُهم اسباب الحرب التي تغلق عامها الأول مع نهاية هذا الشهر على ٢٠٠ ألف جندي من الجيشين الروسي والأوكراني، بينهم ٤٠ ألف مدني أوكراني، ومدن عدة كبيرة أصبحت بصمة عن مدينة هيروشيما التي ضُربت عام ١٩٤٥ بقنبلة نووية أميركية كانت كافية لقتل ٤٠ ألف مواطن ياباني... ضحايا مدنيون يقدّرون بعشرات الآلاف، والدول التي تسمّى عظمى هي التي تشغّل آلة القتل بحجة الإستراتيجيا الدفاعية ومصالحها الوطنيّة.
وعلى الرغم من نداءات السلام التي تطلقها كل من الأمم المتحدة من جهة والفاتيكان من جهة أخرى، تدور الإجتماعات على مرّ الساعات في اوروبا لمدّ الأوكرانيين بالسلاح والدبّابات الحديثة والصواريخ الأميركيّة البعيدة المدى التي من شأنها ان تقود النزاع جدّياً الى حرب عالمية ثالثة عندما يطال أول صاروخ عمق العاصمة موسكو، وهذا مستبعد في الأسابيع القليلة المقبلة حتى ولو تسلّمت اوكرانيا هذه الصواريخ او طائرات الـ"إف ١٦، فالطائرات ستكون تحت قيادة طيارين أميركيين ومراقبة البنتاغون. فإذا اختارت اوكرانيا الإنتحار، أميركا لن تفعلها ولن تدخل في مواجهة مباشرة مع روسيا.
موسكو التي تشعر دائماً بالإرتياح على الرغم من حماوة الحرب، تُعرب في بياناتها وتصاريحها عن استعدادها للمفاوضات بدون شروط، وتضع اللوم على اوكرانيا التي انسحبت من التزاماتها معها التي لم تبخل عليها يوماً بالغاز او بالمال، وتعاهدت مع الغرب، الذي لم يقدّم لها حتى اليوم سوى دبّابات ليوبارد وصواريخ الباتريوت، أسلحة كفيلة ان تقود اوكرانيا شعباً وجيشاً الى الإنتحار.
وتعزو الدول الغربيّة والولايات المتحدة في الأمم المتحدة أسباب تزويد أوكرانيا بالسلاح بأن روسيا هي التي "غزت" اوكرانيا بدون أسباب واهية، وخالفت الأعراف الدوليّة وميثاق الأمم المتحدة، ويجب عليها ان تتضامن للدفاع عن الحق في وجه الظلم.
نسيَ العالم "العالم" في الحرب الروسية-الأوكرانية، وغابت أجندة ٧٢ نزاعًا في العالم (سياسي وإنساني)، عن جدول أعمال المجتمعين في أروقة الأمم المتحدة خصوصاً في مجلس الأمن الدولي حيث تُعالج الأزمات السياسية والإنسانية. وأسَرَّ دبلوماسي عربي لـ"النشرة" خبراً لم يلاقي حتى اليوم جواباً له، فباح بأن جلسات "الأوتشا مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" هدفها اليوم فقط جمع المليارات لدعم الشعب الأوكراني، متناسين المجاعة التي تهدد حياة ٢٢ مليون شخص في القرن الإفريقي وحده، و٦ مليون أفغاني و٣٠ مليونًا في مدغشقر واللائحة تطول، بسبب الجفاف والفقر أو لأسباب أخرى تتعلق بعمل حكومات الدول الضعيفة. وقال الدبلوماسي: نبدأ الجلسة مع إعلان مليار و٢٠٠ مليون دولار من الدعم، لنقفل بعد ساعة على حوالي الملياري دولار، هي هدية الدول المانحة التي توجّه دعمها "فقط" لأوكرانيا... من دون ان يتذكروا الدول الفقيرة ولو بقرشٍ واحد. ولا عجب في ذلك، فعندما نرى ان هذه الدول أغلبها من اوروبا الغربيّة، وهي التي تقرر موقع الدولة التي تريد دعمها، نفهم تماماً لماذا تمّ اختيار الشعب الأوكراني النازح، كي يستقرّ ولو بشكل موقّت قبل عودته الى منزله، تحسّباً للجوئه الى الدول الأوروبيّة المجاورة التي تعاني بدورها من أزمات اقتصاديّة خانقة مع ارتفاع أسعار النفط وبعد تداعيات جائحة كورونا.
أجراس الإنذارات تدقّ في العالم، من القطب الى القطب، وصدرت لائحة بالدول العشرين الأكثر عوزاً عام ٢٠٢٢، بينها لبنان، سوريا، اليمن، الصومال وجنوب السودان من الدول العربيّة، التي لم تجد طريقة حتى اليوم لإستخدام ثرواتها الطبيعية تماماً كما فنزويلا الغنيّة بالنفط ونيجيريا بالغاز الطبيعي والذهب. وهذه الدول تحمل عنوان "الدول التي في خطر" وترزح تحت أزمة اقتصاديّة او صراع او كارثة طبيعية وتهجير.
أجراس العالم تدق ولكن الجرس الأوكراني الأعلى صوتاً، يُسمع صداه يومياً بين واشنطن ونيويورك، ربّما لأن المواطن الأوكراني أعلى قدراً من المواطن العربي او الإفريقي. كل العيون شاخصة على الحرب في اوروبا التي تستعر فيها المعارك العسكريّة على الرغم من برودة وثلوج فصل الشتاء. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي يطالب يومياً بتسريع عملية تسليم الأسلحة ليتمكّن من الصمود وتحقيق النصر، في حين انّ الإتحاد الأوروبي وجد في اليومين الماضيين ان دعم اوكرانيا يبدأ في إنجاز اصلاحات في البلاد ومعاقبة الفاسدين كي تستحقّ عضوية الناتو. يعني ان الحرب في مكان والإستراتيجية الدفاعية في مكان آخر. وعلى الرغم من نداء الرئيس الأوكراني الذي يُنذر بحرب ثالثة وتفكّك حلف الناتو في حال استمرت الحرب الروسيّة-الاوكرانية، غير ان المراقبين في الأمم المتحدة لا يرون الحلّ إلا عبر طاولة حوار تجمع أطراف النزاع لوضع خطوات تنهي الصراع مع الإحتفاظ الروسي بالمدن التي احتلّها والتي يعتبرها أصلاً أراضي روسيّة، على الأقل في الوقت الحاضر.
وبعد قراءة ميدانية على الأرض في اليومين المنصرمين، يبدو ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضّر واحدة من مفاجأتين، إما دخول كييف بمناسبة ذكرى اندلاع الحرب في الرابع والعشرين من شباط الجاري، بحسب تصريح القادة الأوكرانيين، أو القضاء على أقوى الأسلحة الأوروبيّة والأميركيّة قبل أن تصل الى يد الأوكران، فيسجّل انتصاراً على مصانع الأسلحة للناتو والولايات المتحدة.
بوتين الذي يربك العالم مع بداية العام الجديد، هدّد ووعد باحتلال ١٥ في المئة من أراضي شرق اوكرانيا، كما هدّد البارحة بحرق أوكرانيا في حال تمّ الهجوم على القرم لتحريرها من قِبَل الجيش الأوكراني. ومع دخول اسرائيل على خط الحرب وإعلانها تزويد اوكرانيا بالسلاح، توسّعت رقعة اللاعبين، فاستشرس الدبّ الروسي معلناً انّ النازيّة في شكل حديث تهدّد بلاده، في نفس الوقت أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف انّ دولة مولدوفا هي الوجهة الثانية بعد اوكرانيا. فهل فعلاً نحن دخلنا الحرب العالمية الثالثة؟ على الأقل نعرف جواب أمين عام الأمم المتحدة الذي قال ان الحلّ ليس قريباً وان الأمور متجهة نحو التصعيد والتأزّم، ومجلس الأمن عاجز حتى اليوم عن إصدار قرار إدانة واحد او توجيه اتهام منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا فالحرب في وادٍ ورعيان الأمم في وادٍ والشعب الأوكراني وحده يدفع الثمن.
سمر نادر
الأمم المتحدة-نيويورك