بدأت المارونيّة على جبل وبقيت صامدةً على جبل، وستبقى أبداً على جبل الحياة والحريّة!.
إسم الجبل المارونيّ الأوّل قورُش؛ وهو جبل التأسيس!وإليه صَعِد مارون، كما صَعِدَ موسى إلى جَبَل سيناء، ليُلقي نَظرَةً على الضّفَة الأُخرى من الوجود، حيثُ وَاجِدُالوجود الذي لا يموت، والوجود الذي لا ينتهي. وحيث يُشعِلُ لهيب المحبّة النّازل من فوق، من عند الله، القلوب التائقة إلى عِشرة سيّد الحياة، ويُضيء النفوسالعطشى إلى النّقاء.
على جبل قورُش، بدأت قصّةحياة شابٍّ اسمه مارون، ذاب حُبّاً وعِشقاً بيسوع، ومعه بدأت قصَّةُ شعبٍ تسمّى باسمه "ماروني-موارنة"! حياة مارون كانت سبباً في ولادة وحياة شعب، ولهذا فعيد مارون هو حُكماً عيد ولادةِ شعبٍ لا يزال يُولَد على جبل، وسيبقى كذلِك إلى قيام السّاعة.
ولهذا فإنّ الجبل الأوّل،جبل مارون، لم يكن مكاناً للولادة وحسب، وإنّما لألم النسك والعبادة والصّوم والتقشّف، والعيش في العراء، والجهاد في سبيل البرّ، والموت؛ موتٌ يُرافق بالضرورة مسيرة مَن يرغب في الإرتقاء إلى الحياة:فالولادة، كتسَلُّق الجبل الشّاهق، لا تتمّ من دون مَخاض وألم، ومَن يُريد الحياة عليه أن يستحقّها بغضّ النظر عن الآلام والمَشَقّات والمخاطر، فهذه كُلُّها زهيدة وبخسة!.
مَن يُريد الحياة على الجبل لا بُدّ من أن يموت عليه! هناك أثمانٌ كبيرة يجب أن تُدفع لقاء البقاء في تلك الحالة التصاعديّة التي تقود الإنسان إلى مركز الوجود، وليس أقلّها الموت الذي لا بديل عنه في رحلة الإرتقاء إلى الله! هذه المُعادلةأرسى يسوع أسسها بموته وقيامته؛ فلا بُدَّ لحبّة الْحِنْطَةِ من أن تقع وتُدفَن في الأرض لتأتي بالحياة لها ولغيرها. ولا بُدَّ لِمَن يُريد أن يربح نفسه وغيره، من أن يموت عن نفسه ليَكون سبباً في حياته وحياة غيره (يو12: 25). الحياة من دون موت باهتة، والموت من دون حياة سراب. ولهذا فالجبل الذي وُلِد عليه الموارنة وعليه يُقيمون،هو أيضاً جبل الجلجلة حيث تربط ذبيحة الفادي ودَمه المُراق على الصّليب، الأرض بالسّماء، والإنسان بالله.وعليه، فالموارنة هُم شعبٌ دائم الولادة ودائم الموت؛يُولَدُ على الجبل ويموت عليه ليُولَد من جديد إلى الله. وبين الولادة والموت تتشكلّ شخصيّة هذا الشّعب التي تحمل في خلاياها جينات الصّمود والثبات والشموخ والصبر والرّجاء، هذا الشّعب الذي قدرهأن يسير بين ثِقلِ الصّليب، وتعزيات الرّوح!.
وشعب الجبل هوشعبُ القِمَم، شعب الحريّة. القِمَمُ هي المواقع الأعلى التي تتوّج الجبال وتكشف البعيد، ومن هُناك تهرب الأنظار إلى اللامنظور، وتسبح في الأحلام التي تكسر الحواجز لتستريح في المساحات المفتوحةعلى اللانهاية. على قِمَم الجبال العالية، تَعلَّم الموارنة، والقَولللعلامّة والمُفكّر الماروني المونسينيور ميشال حايك، أنّ "الحرية هيوطن الموارنة الوحيد لا الأرض...لأجلها صادقوا من صادقوا، وعاداهم واعتدى عليهم من عادى واعتدى"، وانّها ذخيرةٌ مقدّسةٌ عليهم أن يُحافظوا عليها لئلا يحجروا على أنفسهمفي زواريب التحجّر والتقوقع والإنغلاق، والأفكار والسياساتالمُبرمجة.
لا يزال الموارنة شعب الجبل، شعب القِمَم، قِمَم الرّوح، وذلك على الرغم من انزلاقه في فتراتٍ معيّنة من تاريخه إلى قعر الوادي السّحيق، وما يُرافق هذا الإنزلاق من خيبات وأوجاع. وتبقى الثقة كبيرةبأنّ حدّ هذا الإنزلاق توبةٌ تُعيد الموارنة إلى الجبل حيث يبدأون من جديد بمسيرة الموت والحياة على رجاء الترقّي إلى قِمَم جبل الله!.