لا يرى كل العارفين بخبايا الأموال وعلم الاقتصاد أن هناك مبرراً لإنهيار الليرة اللبنانية بشكل دراماتيكي. يستغربون انخفاض قيمة العملة الوطنية امام الدولار الأميركي حوالي ثلاثين الف ليرة خلال شهر، بينما كانت الواقعية المالية تقضي ألاّ تكون قيمة التراجع اكثر من الف ليرة شهرياً.
فما هي الاسباب؟
يجزم الخبراء ان الخلاف السياسي مسؤول عن تدحرج قيمة الليرة، حيث تتظهّر التباينات بين القوى، وتمنع مشاريع الحل، مما يبقي الازمات القائمة.
ينقل مطلعون حديثاً يجري في دوائر فرنسية: كيف صمد لبنان بعد ثلاث سنوات من بدء الانهيار الاقتصادي؟ كانت تعتبر باريس أن بيروت لن تصمد طويلاً، وستذهب الازمة الى اقصى درجات سلّمها، بشكل يتيح فرط البلد ثم اعادة تركيبه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. لكن طبيعة اللبنانيين ومؤازرة الاغتراب لأهاليهم، وتدّخل مصرف لبنان عبر تعاميم و"صيرفة" مدّد من عمر الأزمة القائمة، ومنع الانهيار المالي السريع، من دون ان يعني ذلك حلاًّ لا جزئياً ولا جذرياً.
فجاءت الزيادة في حدّة التوتر السياسي:
اولاً، فراغ رئاسي مفتوح، من دون التوصل إلى اتفاق يسمح بإنتخاب رئيس للجمهورية.
ثانياً، تعطيل المؤسسات الدستورية نتيجة وجهات نظر متباينة حول عمل مجلسي النواب والوزراء.
ثالثاً، توقّف المبادرات السياسية التسووية ومنع حصول حوار وطني.
رابعاً، تحلّل الادارات ومؤسسات الدولة، بشكل طال الجسم القضائي، بسبب الاصطفافات السياسية.
رابعاً، غياب الرؤى الاقتصادية، والتباين بشأن "الكابيتال كونترول".
كلها عوامل أضفت مزيداً من الإرباك على الساحة اللبنانية، فإنعكست بشكل رئيسي في انهيار العملة الوطنية بشكل سريع.
اذا كان مصرف لبنان المركزي تدخل في الاسابيع الماضية ولجم ارتفاع سعر الدولار، بعد ضخ مبلغ ٨٠٠ مليون دولار، لم تصمد تأثيراته سوى ايام، فلا يبدو ان المصرف المركزي سيتدخل حالياً من دون طلب سياسي حكومي منه. وهو امر لن تفعله الحكومة، بسبب عدم جدواه. يُحكى عن تنافس المصارف والصيارفة في عملية ابتلاع الدولار بسحبه من السوق السوداء.
ويعتبر مطَلعون ان ازمة القضاء-المصارف، تؤدي الى مزيد من ضياع الليرة، بشكل خفّض من قيمتها عشرة الاف دفعة واحدة خلال يومين. فهل هناك حل؟ سجلّت محاولات لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي لرأب الصدع، لكن خطوات المدعية العام في جبل لبنان القاضية غادة عون تجاه عدد من المصارف زاد من تصلب الجسم المصرفي، بالاستمرار بالاضراب، وبالتالي ادى الى مزيد من تدهور سعر العملة الوطنية.
إلى اين؟
يقول المطلعون ان سعر الليرة الطبيعي حالياً امام الدولار لا يجب ان يتجاوز خمسين الفاً. لكن الاسباب المذكورة اعلاه ادت الى مزيد من تدهور وضع الليرة اللبنانية. وليس هناك من موانع في هذه الحالة ان يصل سعر العملة الوطنية الى مئة الف ليرة مقابل الدولار الواحد.
واذا كان عدد من المراقبين يعتقدون ان اعتماد اعداد كبيرة من اللبنانيين على موارد بالدولار او عبر المغتربين، فإن "دولرة" الاسعار اطاح بقيمة تلك المداخيل بعد قيام "تجار الازمات" من دون حسيب ولا رقيب بزيادة الاسعار.
يتحدث اللبنانيون الذين يتقاضون رواتب او تأتيهم مداخيل بالدولار، وقد اعتادوا على نمط معيشي محدّد يتناسب مع مداخيلهم، ان مبلغ الالف دولار كانت تكفيهم شهرياً في العام الماضي، لكن مبلغ الفي دولار لم يعد يكفي شهرياً.
لذا، فإن الازمة مفتوحة، بغياب المبادرات السياسية المسؤولة والرؤى الوطنية الهادفة. فهل تتحقق النبؤات الغربية، الفرنسية تحديداً، بأن لبنان سينهار ليُعاد تركيبه من جديد، بعد فشل تلك السيناريوهات منذ ١٧ تشرين ٢٠١٩ لغاية الآن؟ فلننتظر الاسابيع القليلة المقبلة، لأنها ستحمل مستجدات بعد تراكم الازمات التي لا قدرة محلية على تحمل تداعياتها.