نقفُ، كما كلِّ مرّة، في مطلع هذا الصومِ المبارك، نتأملُ واقعًا نحن فيه، وقد وشّحهُ الزمنُ بثقل العائدِ من العراك، وعلى وجهه رواسب ابتسامات، هي أقرب الى ابتسامة المهزوم، منها الى فرحِ المنتصر، نتطلع الى دروبِ الأمس، تتدافع عليها الذكريات العجاف، تزهرُ كشفاهِ المصليات، وقد بلَّها الدمعُ بوهجِ الرجاء.
نتطلع الى انساننا اليوم، يحلم بالسماء ادنى بقاء، فتشدُّهُ جذوره عمقًا إلى قلب التراب، يحلم بشيءٍ من إله وفي قلبـه لهبٌ يغفو كما الاثم ولا يموت، وفي ذهنه سَفَرٌ كما الرياح، يهوى الانطلاقَ الى البعيد البعيد، ويقلقُ على محطِّ الرحال.
نقف في مطلع هذا الصوم ونسأل، ماذا يحمل لنا الصوم من سؤال؟ ماذا يحمل عنّا من هموم؟.
اترانا اليومَ امام معركة السلام، وكلّنا عيونٌ تحمِلُ الاكفَّ عاليةً وتقول، تعالوا تعالوا، من أقاصي الشرق الى مرامي الغرب، ومن جليد الشمال الى صقيع الجنوب، هتافاتُ نداءِ، الى السلام تسعى، وكأنَّ الارضَ تعبَتْ من هديرِ الدمار، وتعبَ بنوهـا من حمّى الاستنفار، فتنادوا الى بيدرِ السلام، ينقوّنه من زوانِ الشرير، حنطةَ خير ٍ وموعدَ استمرار .
أليس من علامات الزمن، ان تتكثفَ لقاءاتُ قادة الارض فتتقارب الافكـارُ وتلتقيَ الاراءُ، وتوجدَ الحلولُ لكثيرٍ من مشكلاتِ الارض ، وكُنّا نراها مستحيلةَ الحلِّ منذ أيام ؟.
لماذا اليوم وعى اهلُ القرار انَّ حلولَ النارِ مصيرُها الى النار، وان الحوارَ وحدَه، وما الّاه ، قادرٌ على سحقِ كلِّ جدار ٍبینَ انسانٍ وانسان؟.
لماذا وعوا، أنّ المصالحةَ وحدها هي دعوةُ الانسانِ وأنَّ الأنسَ فيه، اقوى من الشجارِ واثبت من النفور، وأنّ السلاحَ الوحيدَ الذي يجدرُ بالانسانِ حمْلَه، هو سلاحُ التسامُحِ والمحبَّةِ، ولأنَّه الوحيدُ، وليس الاّه، الذي لَهُ الغلبَةُ في نهايةِ الأشواطِ، ولأنَّه منذُ الابتداء، زُرِعَ في قلبِ الناسِ مع تلكَ النسمةِ الالهية التي أحيت التراب. زُرِعَ في قلبِ الناسِ، كلِّ الناس، فلَمْ يمِّيزْ اللهُ عِرقًا عن عرقٍ ولونًا عن لون، ولم ينفخْ فيهم روحَ الانقسامِ الشيطاني، انَّما نفخَ روحَ الحقِّ، والحقُّ واحدٌ، ونفَخَ روحَ البقاءِ، وما من بقاءٍ للشرير.
اتراها رجعةٌ الى الذاتِ ويقظةُ نُبْلِ الوجود وعرفانٌ لقيمةِ الانسان؟.
في كلّ مرّةٍ نقيمُ الذبيحةَ الالهيةَ. نذْكُرُ من جُمْلَةِ منْ نَذْكُر، حُكَّامَ العالمِ والقيمينَ على شعوبِ الارض، ليحقّوا الحقَّ ويقيموا العدلَ ويُحلّوا السلامِ، ولا بدّ للصلاةِ متى كانت بايمانٍ، ولو بقدر حبَّة الخردل، أنْ تفعلَ فعلَها وانْ يستجيب َ الله. لا بدَّ للصلاة، وانْ لم تنقُلِ الجبَالَ، ان تنقُلَ فِعْلَ الشرّ والانقِسَامِ الى البحر، وانْ تبدُلَ بِهِ فِعلَ الخيرَ والمحبَّةِ والمصالحة.
روحُ المصالحةِ وحدَه، يخلقُ الهاجسَ الدائمَ عندَ البشريّةِ لتسعى حثيثةً، الى عيشِ السلام فيغدو العالمُ الذي نحنُ فيه، عالمًا لا تنافرَ فيه ولا خصوماتٍ، ولا اطماعَ، تَدْفَعُ، مشحونةً بقوى الشرّ، الى التنازُعِ وحبّ الغلبةِ والسيطرةِ وتوسيعِ مناطِقِ النفوذِ والانقسامِ الدنيء. ساعَتَها، يَقْرُبُ عالمُنا من عالمين آخرين، واحدٍ كان قَبْلَ الخطيئة وآخر نسعى بنعمةِ الله لنَصِلَه، فنحيا السعادةَ الكبرى.
وفي كلّ مرّةٍ يعملُ القادَةُ والمسؤولونَ وأهلُ القرارِ على تقريبِ عالمِ الأرضِ من هذين العالمين، يفعلونَ بفعلِهم هذا شيئًا من أفعالِ الله، عنيتُ العدلَ والسلامَ والمصالحةَ.
عظيم هو الانسانُ حين يعملُ اعمالَ اللهِ وخالدٌ هو .
ألم يقلِ المسيحُ لاولئك المساكين الذين عجبوا لأعمالِه واخذتهم الدهشة، لو كان فيكم ايمانٌ كحبةِ الخردلِ لفعلتُم مثلَ اعمالي واعظم!.
عظيم هو الانسانُ، لان الله أراده عظيماً، وعظيمٌ حين يعرف كيف يحقّق ارادة الله له وفيه، وأعظمُ من هذا حينَ يعرف، إنّ اللهَ وثِقَ به كلَّ الثقةِ. فأوكلَ إليهِ الأرضَ وما عليها ومن عليها، نفسًا وجسدًا، وكأنّ الله يقولُ خلقتُكَ يا إنسانُ عظيمًا فاحمِلِ المشعَلَ عني وَقُمْ، هي أرضي لكَ، وشعبي شعبُكَ، أعِنْهُ، نَظِّمْهُ، قُتْهُ: وقلْ: امانة بيدي مِنْ صُنْعِ يدِ الله، ويلي إنْ لم احفظِ الوديعة.
حين يعي الانسان عظمةً وهبَها اللهُ لَهُ وثقةً حباهُ ايّاهَا، لا يقدرُ الاّ ان يكونَ ضنينًا بعظَمتِهِ وحريصًا على عِقْدِ ثِقَةٍ واسِطَتُهُ رِضَى الله. وحينَ يعرفُ أنَّ العظمَةَ إنّما تكونُ بثمارِها وعلى هذه الثمار تبنى الثقةُ وتدومُ، يعرِفُ كذلِكَ كيفَ يتجنَّبُ أن يكونَ تلكَ التينَةَ الورقاء الخاليةَ من كلِّ ثمَرٍ فاستحقت لعنةً اودتْ بِها الى اليباسِ فالنار.
تُرى اليستْ مظاهِرُ المصالحةِ التي تَتِّمْ في عالمِ اليوم، دليلَ وعيٍ لمسؤوليةٍ اعطاهَا الله الناسَ، فعرفوا أنَّ زمنَ الحربِ زهورُه سوداء، فحنَّ الشرقُ إلى اصلِه النقي، فأعتقَ ألسنةَ الحكم، والتقى الكلُّ هدفًا هو السلام، واذا بمشكلات ِ العالمِ المتفجّرة، تختنقُ وتخْمُدُ، ويُعطَى الكلامُ مِنْبَر السلاح، واعينُ الناس ترى الغدَ وقَدْ زهَّر اليوم، ويُسْمَعُ النشيدُ حدادًا على الايام العجاف، ويُبَشّرُ الحبُّ بقدومِ شيءٍ من ملكوتِ الله.
قادةُ العالمِ اليوم، يمارسونَ فضيلةً من الفضائلِ الالهيَّةِ التي تجَلَّت واضحةً بالمسيحِ وبانَتْ كما شعاعُ سراجٍ غشَّاهُ الضبابُ حينًا وانقشعَ واضحًا احياناً، عبر تاريخ الخلاص، عنيتُ فضيلةَ المصالحةِ وتلكَ التي ارادها الله ان تُلَخِّصَ علاقتَهُ بالعالم منذُ كانَ الى يوم ملءِ الزمان، حيث يدخُلُ الكلُّ نورَ السعادة.
ففي الخلق مصالحةٌ تجلت بالتناغم والجمال وفي الوعدِ بالخلاصِ مصالحَةٌ تجلت بعدمِ اللعنة للانسان وفي العهد بين الله والناسِ مُصالحَةٌ تجلَّتْ بوعدٍ لا يُسحَقُ وفي العبورِ مُصالحةٌ تجلتْ بالوعدِ والتحرّرِ
وفي الانبياءِ مصالحَةٌ تجلَّتْ بالحُضُورِ الالهيِّ بينَ الناس وفي الملكِيَّةِ مُصالحَةٌ تجلَّتْ بالوَحْدَةِ وانتِظارِ الخلاص وفي المسيحِ مصالحَةٌ تجلَّتْ بالتجسُّد والقيامة.
وكلها مبارداتٌ اتت من اللهِ لتدعوَ الانسانَ الى مدّ اليدِ الى ربِّه والى اخيه الانسان، واكاد اقول عِبْرَ اخيه الانسان.
هذه المبادراتُ الالهية، إنْ هي الا دليلٌ على طيبةٍ في الناس، مهما اصروا على رفضِهم وتشدّدِهِم، فاللهُ يعرفُ أنّ في التكرارِ استفادةٌ وفي المحاولات أملُ ايقاظِ الجانب الخيِّر. مبادرات إنْ هي إلاّ دليلُ ايمانِ الله بطيبةِ ما صنعْت يَداه.
تُرى هَل آن الزمنُ الذي فيه تُرْفَعُ ايدى الناسِ عن الناس، لِتُمدَّ الى الناسِ مصافحةَ حَقٍّ وحبٍّ وعدلٍ؟.
ترى، هل وعى الناسُ أنَّ ثقةَ الله بهِم لَنْ تموتَ، وانّهُم لا بُدّ فاعلون ارادة الله، فَراحُوا يَنهجونَ نهجَهُ بالمبادرات الحسَنَةِ هادفينَ الى المُصالَحةِ الكُبرى التي هيَ حُلْمُ اللهِ لهذهِ الارض البائسة؟.
هذه يقظَةُ العالمِ على واقعِ الانسان كما ارادَهُ الله، ولنا في مَنْ هُمْ بينَنا اليوم، ثقةٌ كبيرةٌ، بانَّهُم لن يشُذُّوا عنْ يقظةِ ضميرِ العالم، ليظلّوا غافِلين في شقائهم عن كلّ ما يجري من اجلِ بقاءِ الناس. قادَتُنا وكما كلّ مرّةٍ، يعرفونَ كيفَ يصابونَ بعدوى الخير، فيفتحونَ قلوبَهُم وعيونَهُم وآذانهُم على نداءات المصالحَةِ المُلحَّة، ولا بُدَّ أن يلتقُوا دون معبرٍ مُقفلٍ او بابٍ موصودٍ او حاجزٍ رادع، يلتقونَ، همُّهم غلابُ الشيطانِ وغلْبَه لا تغليبه؛ وبهذا، يشتركونَ في ركبِ السلام ويحقّقون بفعلهم شيئاً من نوايا الله، فتموتُ الأفعى والى الجنّة يعودون.
بهذا التقارُبِ الحواري الهادفِ الى المصالحةِ الكبرى، يعملون اعمالَ ابراهيم الذي يفخرون كلّهم بالانتساب اليه وينفونَ عنْهُم ومِنْ ذِهْنِ متهميهم، انَّهم ابناءُ الشيطان وانَّهم يعْمَلون أعمالَهُ، فينجونَ من حُكْمِ آية الكتابِ على لسان يُوحنا: إن كُنتُم ابناءَ ابراهيم لعملتم اعمالَ ابراهيم، لكنكم تعملونَ اعمالَ ابيكم ابليسِ فاستحققتم الدينونة.
فيا سعاة الخير ويا دعاة المبادرات الطيبة اقتلوا الافعى التي فيكم، والحَقُوا العالَم في سعيه الى المصالحة لتدخُلُوا فرحَ سيِّدكُم، واعدُلوا فإنّ الله لا يحبّ المُفترين.