تبدأ غدًا محاكمة علنيّة بحضور وزراء خارجية العالم، لمحاسبة ما تسبب به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ سنة، والتكاتف الدولي سوف يؤكد له أنه لن يكون هو المنتصر. حرب دبلوماسية ستندلع على أعلى مستوى سلاحها حوار الكلمة والشعارات الرنانة، ولكن ما يجري ميدانياً هو حوار الحديد والآليات والصورايخ الذكية، وفي السماء حوار هدير الطائرات... فهل ستنتصر الكلمة على الحديد غداً؟.
لقد حاولت الأمم المتحدة مراراً على مدى العقود الماضية، حلّ الأزمات الدامية عبر آلياتها وقنواتها، انتصر الحديد ومُنيَت القرارات الأممية بهزيمة من العراق الى ليبيا فسوريا واليمن، ووقف أمين عامها وقفة واعظ في هيكل مجلس الأمن، لكن أوراق الفيتو أعادته خائباً باكياً لا حول ولا قوة له إلا إرسال البطانيّات والأدوية الى الشعوب المقهورة.
تستعد مدينة نيويورك لإستقبال مجموعة من وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي وأغلبهم أعضاء في حلف الناتو، للمشاركة في جلستين مفتوحتين، واحدة في مجلس الأمن وأخرى في الجمعية العامة. ومن المتوقع الاّ يخرج المجلس بأي قرار بسبب الفيتو الروسي المؤكد، والصيني المرتقب، لكن الآمال معلّقة على قرار الجمعية العامة -ولو حمل صفة القرار غير المُلزم- على الجلسة المتوقع ان تكون صاخبة بالمواقف، والتي تحمل الرقم الحادي عشر، تحت عنوان " متّحدون من أجل السلام"، سوف تشهد ولادة قرار بـ"شبه إجماع" يؤكد على ضرورة إنهاء الحرب الروسيّة-الاوكرانيّة والإنسحاب الشامل والفوري وغير المشروط من كافة أراضي اوكرانيا!.
ويؤكد مشروع القرار على ان "العدوان الروسي على اوكرانيا يعتبر انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي"، ويُقر باستقلالية وسيادة اوكرانيا ووحدتها، ويطالب بإيجاد نظام للمساءلة والمحاسبة لكل الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية فيها.
وإذا استعرضنا الرواية الأوكرانية، لوجدنا ان الصراع بينها وبين روسيا قديم العهد، يعود الى مرحلة بين القرن التاسع والحادي عشر، يروي فيه الروس كيف أنه لم يكن هناك ما يًسمّى كيان او دولة إسمها اوكرانيا، وان مثلث روسيا، أوكرانيا وبيلاروسيا هو كيان واحد إسمه روسيا. ومرّت العقود بين كرّ وفرّ وسيطرة من قبَل الروس على أراضٍ تعتبرها ملكاً لها، وفيها شعوب تتحدث الروسية وتتعلّم المناهج الروسية حتى اليوم.
أما في بداية القرن الحالي، تمّ توريط اوكرنيا بدءاً من عام 2014 من قِبَل دول الغرب بعد ان استعادت روسيا أرضها، شبه جزيرة القرم -حسب تعبيرها- عام 2014، فبدأت الولايات المتحدة ودول الغرب تسليح الجيش الأوكراني وتدريبه ليصبح جاهزاً عندما يُطلب اليه الإنضمام الى عضوية الناتو.
وكان ما كان، وأعلن بوتين الحرب على اوكرانيا عندما حاول عبثاً إقناع الولايات المتحدة ان عضوية كييف في الناتو هو خط أحمر لبلادها، لكن الردّ الأميركي كان ان هذا الموضوع هو قرار سيادي لأوكرانيا... فحصلت الكارثة.
تحقق مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية-الأوكرانية، من سقوط 18 الف ضحية مدنية حتى اليوم، ولجوء 8 مليون شخص الى دول اوروبا المجاورة، ونزوح حوالي 6 مليون ، أغلبهم نساء وأطفال.
لكن يبدو أن حساب حقل الأمم المتحدة يختلف عن حساب بيدر الإدارة الأميركية التي أعلنت على لسان رئيس هيئة الأركان الجنرال ميلي، الذي تحدّث عن سقوط 40 الف مدني، ومئة ألف جندي روسي وأوكراني، وتحوّل 13 مليون أوكراني الى مسمّى لاجئ.
ميدانياً، استطاعت روسيا ان تستولي على مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك، بسهولة دون تكبّد الدمار والخراب، لأن سكانهما في الأصل روس، ومدارسهما تعلّم الروسية، فاعتبر بوتين انّه اعاد أمانة الى حضن جمهورية روسيا الإتحادية، ولن تكون على جدول المناقشة خلال أي مفاوضات كمثيلتهما شبه جزيرة القرم.
عشرات المليارات من الدولارات الأميركية اُنفقت على حرب صار عمرها سنة، الولايات المتحدة أرسلت حوالي 115 مليار دولار بين أسلحة ومساعدات عينيّة، وبلغت مساهمات الإتحاد الأوروبي أكثر من 67 مليار دولار. وعلى الرغم من الخلاف القائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، غير ان الإدارة الأميركية ماضيةٌ في دعم اوكرانيا حتى النهاية-حسب تعبيرها. وقد سبق ان سمعت "النشرة" كلاما من واشنطن ان الولايات المتحدة هدفها في هذه الحرب استنزاف القوة الروسية في حرب طويلة الأمد، وأستطاعت ان تجمع دول الإتحاد الأوروبي تحت لوائها، وأجبرته على الإنخراط فيها ودفع المزيد الذي ربما يصل الى حرب على أراضيها. نجح الأميركيون مرة جديدة حيث فشلت اوروبا في الحفاظ على هدوئها وأمنها.
فمع بداية السنة الثانية على الحرب، بدأنا نسمع كلاماً روسياً حول الحرب على مولدوفا وبولندا المستشعرتان بالخطر.
دول الناتو التي بدل ان تقنع روسيا بطاولة المفاوضات لتُنهي هذا الصراع، نراها تصبّ النار في هشيم المؤتمرات العالمية، وتعلن عن دعم أكبر من اسحلة ودبابات وطائرات حديثة الصنع، وتعقد اجتماع ميونخ للأمن السنوي، لأول مرة، من دون دعوة روسيا. وفي الوقت الذي نرى فيه تقدم القوات الروسية في المدن الأوكرانيّة، تعلن فرنسا وبريطانيا عن مفاوضات ستحصل بين طرفي النزاع تكون الحلقة الأضعف فيه موسكو، في شبه طلاق كبير بين ما يحصل ميدانياً وما يدور من خطابات رنانة وداعمة وتوزيع أوسمة على صدر الرئيس الاوكراني فولوديمير زلنسكي، على حساب شعب اوروبا بكامله، الذي دخل في حياة صعبة جديدة، بعيدة كل البعد عن رفاهية عاشها على مدى قرون.
ما يبعث على الحيرة كيف ان المانيا العظيمة مثلاً، التي ما إن أحسّت بالخراب الإقتصادي الذي من شأنه ان يدخل دارها، حتى سارعت الى الصين لتقديم الطاعة، ولكن سرعان ان عادت الى معسكرها الغربي ووضعت كل امكاناتها الحربية في خدمة كييف. من الواضح ان هناك أذرع خفيّة تدير العالم اليوم. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الوقود واختفاء القمح من دولة الى أخرى، وضرب أنابيب الغاز في اوروبا، في حرب اقتصادية واضحة المعالم، يبدو ان الصراع سيتسمر، الى أجلٍ غير مسمى، ولن تكون جلسات مجلس الأمن وقرار الجمعية العامة الصادر غداً، سوى مسرحية مستمرة لفصول حرب بدأت بالغاز والقمح، وصفها بعض المراقبين انها ستكون الحرب العالميّة الثالثة، وقد ظهر جلياً انقسام العالم الى معسكرين غربي وشرقي.
ما يجري في اوروبا سيكون مغايراً لما سيكون في نيويورك. هناك صراع الحديد وهنا جدال نسمعه منذ عقود، ولن يكون يوم الخميس المقبل سوى يوم عمل عادي يعود الجميع الى مكتبه لكتابة تقرير جديد عن الحرب في اوروبا.
سمر نادر
الأمم المتحدة - نيويورك