كنتُ قد عقدتُ العزم على التوقف طوال فترة تصريف حكومة نجيب ميقاتي للأعمال، عن تناول القضايا الوطنية في مقالات قانونيّة بعد انهيار القطاعات كافّة، والخيبة التي اُصبت بها عقب ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.
بحثنا، حقوقيون وعسكريون واكاديميون وسياسيون واقتصاديون، كتابة وشفاهية، من الوجهة القانونية الداخلية والدولية، ودون تكليف من ايّ جهة، سوى اعتناق النضال المستميت صوناً وحفاظاً وحماية لبلدنا وشعبه وثرواته، قضية الحدود البحريّة الجنوبيّة، التي انتهت في اطارٍ لا يعدو عنوانه "قل ما شئت ونحن نفعل ما نشاء"، "ابكِ ما استطعت ونحن نحتفل بالمستطاع".
لكن، الدعايات الاعلامية السياسية المكلّلة بـ"البراءة" والعناوين "الطنّانة" الموجِّهة للرأي العام في عهد حكومة "الانقاذ"، تستفزّني
يغضبني أكثر الجهل بالقانون او التجاهل به من حكّام دولة منهارة تذخر بالعقول البنّاءة.
ودون تكليفٍ من أيّ جهة،ارتأيتُ أنّه لا بدّ من مقالة قانونيّة موضوعية تخرج عن "سَرب" التفسير القانوني التائه الرائج نحو كلمة الحقّ ولو لم يقرأها أحد.
إذ لا يخفى، أنّ أهل السياسة والاعلام في بلادنا، معظمهم مصاب بمتلازمة تفوّق الرجل على المرأة فنجدهم من السبّاقين في شراء وبيع البخور.
قرّرت ذلك، لحظة انتفض فيها ميقاتي في حوار إعلامي مرئي بدا فيه مربكاً تبعاً لسؤالٍ عن "التمديد" للواء عباس ابراهيم مدير عام الأمن العام اللبناني.
خانت رئيس الحكومة المستقيلة أعصابَه وعباراته.
بدا تارةً كرئيس لجنة تحكيم في برنامج "المُبدعين"، يوزّع جوائز "الترضية" و"الطبطبة" للواءٍ خارج من المباراة يظنّه مكسور الخاطر، مانحاً إيّاه المديح باسمه الناجح و"واعدا" اياه بمستقبل باهر، لا يملك منه هو برهة.
ثمّ نفضَ طوراً وبسرعة محضّرة المسؤوليّة عنه، رامياً الكرة بملعب مجلس النواب لتعديل سنّ التقاعد في قانون الموظّفين، وطبعاً المَقصَد "إعجازيّ" في مرمى رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
الأجمل في كلّ المشهد، أنّ ميقاتي خَلُصَ الى أن اعترف بانتظاره الرأي القانوني الذي يدرسه خمسة قضاة، وأخبرنا انه رفض احدى الدراسات، لسبب قانوني هو أصدرَ الحكم به.
ثمّ عادَ وجزَم انّ الرأي القانوني يدلي به في وقته كمَّن يحمل ورقة الفائز ليدلي بها بعد الفاصل الاعلاني.
هل يسلّف ميقاتي موقفاً للشيعة في قضيّة اللواء عباس ابراهيم من جيبهم؟.
الواقع القانوني كما هو:
-"التمديد" بدعة لا يحتاجها مدير عام الامن العام الحالي للاستمرار في مهامه.
-"التمديد" بدعة ليست من صلاحية رئيس حكومة تصريف الأعمال ولا وزير الداخلية.
-"التمديد" بدعة لا تحتاج مجلس نواب لتعديل قانون.
-"التمديد" بدعة لا أساس قانوني لها.
-"التمديد" تراند صدقّه الناس واصحاب العلاقة.
السَند القانوني لما سبَق أفنّده بايجاز في الآتي:
أوّلاً: ينظم المديرية العامة للأمن العام ويحكُم وضعيّة مديرها قانون خاص مرّ بسلسلة تاريخيّة من التعديلات كان آخرها:
•المرسوم الاشتراعي رقم 139 تاريخ 12 حزيران 1959 ما زال ساري المفعول، وبموجبه أصبح الأمن العام مديرية عامة ترتبط بوزير الداخليّة مباشرةً ويرأسها مدير عام.
•المرسوم التنظيمي رقم 2873 تاريخ 16 كانون الأول 1959 أضاف دوائر مناطقيّة وحدودية برّية وبحرية
ثانياً: بتاريخ 3/9/1965 صدر القانون رقم ٤٨ معدِّلاً بعض مواد المرسوم الاشتراعي رقم 139/59 دون إلغائه.
ثالثاً: جرت تغييرات تشريعية لاعادة تنظيم المديرية العامة للأمن العام فكان المرسوم الاشتراعي رقم 104 تاريخ 16/9/ 1983، لكنّه أُلغيَ بموجب المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي رقم 27 تاريخ 23/3/1985 مع سائر النصوص التنظيميّة الصادرة إنفاذاً له، وأعيد العمل بالمرسوم الاشتراعي رقم 139/59.
رابعاً: تنصّ المادة 5 من قانون تنظيم المديريّة العامة للأمن العام (عُدّلت بموجب قانون 48 / 1965) وبموجب قانون 9 / 1965) على ما حرفيته:"يُعيّن مدير عام الامن العام مبدئياً من بين مفوضي الامن العام الممتازين، لكنّه يمكن تعيينه بصورة استثنائيّة من موظفي الفئة الاولى أو من ضباط قوى الامن الداخلي أو الجيش أو من غير الموظفين، الذين يحملون الاجازة في الحقوق أو ما يعادلها، على ألاّ تقل عن اثنتي عشر سنة على الأقلّ".
هنا، لا بدّ من الاشارة أنّ المادة الخامسة المذكورة أعلاه لم تُعطف على القانون 17 الصادر بتاريخ 6/9/1990 الخاص بتنظيم قوى الأمن الداخلي كما مواد اخرى، فتمايزت في حفظ حقٍ للمدنيين غير الموظّفين بمركز مدير عام الامن العام على عكس قانون تنظيم قوى الامن الداخلي، الذي حصره بالضباط او بالموظّفين المدنيين في المادة التاسعة منه.
خامساً: تنصّ المادة 34 من قانون تنظيم الأمن العام على ما يلي:"يمارس مدير الامن العام بالنسبة للامن العام الصلاحيّات الادارية التي يمارسها المديرون العامون في وزارات الدولة"، ما مفاده، أن الصلاحيات الاداريّة دون الحقوق والاصول التنظيمية لا تتمايز عن تلك الممنوحة لمدراء عامين موظفي الدولة.
سادساً: لم يذكر قانون الموظفين العامّين في أي بند منه انطباق احكامه على مدير المديرية العامة الأمنيّة.
سابعاً: إنّ مواد قانون تنظيم الامن العام الذي فصّل في ابوابه الاحكام المنطبقة على الموظّفين في المديرية لم يشمل مدير المديرية معهم، ولم يخضعه لقانون نظام الموظفين-المرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959.
ثامناً: نصّت المادة 38 من قانون تنظيم الامن العام (عدلت بموجب قانون 344/1994) وتحت باب معاش التقاعد على ما يلي :
أ-تطبق على ضباط ومفتشي ومأموري الامن العام احكام قانون التقاعد السارية على عسكريي الجيش.
ب-تصفّىمعاشاتتقاعدوتعويضاتصرفضباطومفتشي ومأموري الامن العام من قبل لجنة خاصة في الامن العام تشكل بمرسوم بناء على اقتراح وزير الداخلية.
ولم يُذكر راتب مدير عام الامن العام من بين المتقاعدين على اعتبار انه قد يكون غير عسكري .
يُستدلّ ممّا سبق ما يلي:
- لا تنطبق احكام المرسوم 112 تاريخ 12/6/1959 الخاص بنظام الموظّفين على مدير عام الأمن العام لجهة سن التقاعد لغياب النصّ.
- لا أثر لسنّ التقاعد الامني او العسكري للضابط مدير عام الامن العام على مهمّته الادارية اذ انّ التعيين الحكومي الصادر بموجب مرسوم في المنصب المذكور غير محصور قانوناً بالضباط او الموظفين سنداً للمادة 5 ق 139/59.
-مدير عام الأمن العام يُعيّن بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء ولا يُبدّل الاّ بمرسوم مثله.
-لا سنّ تقاعد لمدير عام الامن العام على غرار رئاسة مجلس النواب.
-العادة ليست القاعدة، والقانون لا يلزم اللواء عباس ابراهيم بترك منصبه، الاّ بعد صدور مرسوم عن مجلس الوزراء بتعيين خلف له.
لكلّ ما تقدّم،انّ "التمديد" بدعة قانونيّة لا يحتاجها مدير عام الامن العام اللبناني اللواء عباس ابراهيم، الذي
من واجبه الاستمرار في مهامّه الاداريّة بقوّة القانون، بصفته مدنياً دون حاجة لتعاقد، إذ أنّ منصبه مستمرّ لحين صدور مرسوم عن مجلس الوزراء يقضي بتعيين مدير عام اخر.
أمّا أن يرفض رئيس مجلس الوزراء السيد نجيب ميقاتي هذا الرأي القانوني أيضاً لعلّة "عدم الاقتناع" فهذا حقٌ له، وحقّ اللواء ابراهيم الاقتناع به .