نحن في مطلع الصوم، واليوم تكثرُ بين الناس الأقاويل والأحكام، هذه للتحليل وتلك للتحريم وأخرى للتبرير وسواها للتساؤل، وإن جاز لنا أن نوجز هذه المواقف تحت عناوين نقول: بعضها يطال الصوم المادي والآخر يبحث عن القيمة الروحية للصوم. ولنا بالتالي ما نقوله في هذه الفريضة التي نراها في مختلف الأديان والمذاهب وثنية كانت أم سماوية، ولها في سِيَرِ الأنبياء والقديسين القدْر الكافي لتؤخذ مثلاً يحتذى وطريقًا يُسلك. فاليهودية تحدّدها شكلاً ومضمونًا ومفاعيل فهي للتكفير وردّ غضب الله، وهي موسمية تتجدّد أمام كلّ خطرٍ يهدّد الشعب بأسره أو مدينة من مدنه. والاسلام جعل الصوم ربع الايمان كما جعل الشراهة ربع المهلكات، إذ به يقاوم الانسان الشيطان، على ما جاء في الحديث "إنَّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقوا مجاريه بالجوع"، وإلى جانب الصوم المادي هناك اشارة صريحة الى المفهوم الروحي للصوم لأن الاسلام يعتبر أنَّ "خمسة يُفطِرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة"، وكأنَّنا نقول: كل مخالفة لوصية من وصايا الله العشر تبطل الصوم وتجعلنا نربحُ مِنْهُ الجوع ليس إلاّ.
هذا بعضٌ من كثير ممَّا قيل عن الصوم في الأديان، فماذا نقولُ نحن المسيحيّين.
يعلّمنا كتابنا أنّ كلَّ خيرات الأرض من نبات وحيوان، هي لرفاهية الانسان وراحته (اعمال 10، ١٣) كما يعلمنا أنَّ الأكل والشرب مدعاة للفرح والشكر، غير أنَّه يعلمنا كذلك أنّ الطعام الحقيقي، هو أن نعمل مشيئة أبينا الذي في السماوات(يوحنا 4، 34) وأنَّ الخبز الذي يعطي الحياة ليس هو المنُّ والسلوى إنَّما هو ذاك الخبر النازل من السماء الذي يهبُ العالم الحياة(يوحنا 6، 32 ). فإذا كان لـيس بالخبز وحده يحيا الانسان، من جهة، وكل خيرات الأرض لراحة الانسان ورفاهيته، من جهة ثانية، وجب أن نفهم أنّ من واجب الانسان أن يوفِّق بين ما هو لنفسه وبين ما هو لجسده طالما انه يعيشن على هذه الارض، وأن يستعمل كلَّ خيرات الأرض لما فيه خير نفسه، وبالتالي يكون للصوم الذي يبدو انقطاعًا عن الأكل والشرب، مَعْنىً روحيًا هو الهدف، ويبقى الجوع الوسيلة.
1-الصوم خروج من الذات الضيِّقة، وابتعاد عن الأنانيَّة، اذ فيه نترك شيئًا من متعتنا التي تلهينا عن النظر الى ما يُمتّع الآخرين. به نعرف أننا لسنا محور الكون ولسنا وحدنا موضع اهتمام نفسنا والآخرين والله، وإن كان لنا ما يكفينا من هذا الاهتمام، عندها نعرف كيف نتعامل مع الآخرين بالعدل والمحبَّة ونعرف كيف ننسى الاساءة منهم ونتعامى عن الخطأ الذي فيهم، فنرى حسناتهم، وكلُّ حسن ٍمحبوب بذاته.
نخرج بالصوم من ذاتنا فنعرف أنَّ الحياة مشاركة وأنَّ خيرات هذا العالم، من حقّ الجميع وأنَّ من واجبنا أن نشرك الآخرين بفرحنا وإن كان هذا الفرح مقصورًا على المتعة المؤقتة، كالأكل والشرب .
2-الصوم علامة انتظار المسيح العائد. فالمسيح هو الخبز الحي النازل من السماء، ينتظره المؤمن ليشاركه الفرح بالخلود، وما تلك الصلاة التي قالها آباؤنا، "مارناتا" الاّ تعبير عن الشوق الى عودة المسيح، فيعمّ الفرح وتكمل السعادة. والصوم بفرحٍ هو من ميزات الصوم المسيحي، لأنَّ المسيح أوصانا أن ندهن رأسنا ونتطيّب إذا صمنا، لأن الدهن والطيب من علامات الفرح، والغاؤهما علامة حزن، أن نتطيَّب ونحن صائمون، يعني أنَّنا بصومنا نستعدُّ للقاء العريس الذي هو الفرح الدائم.
3-الصوم انتقال من الخير المادي الذي يعطيه الله، الى الله بالذات. لقد وعدنا الله قديمًا بأرض يسيل فيها اللبن والعسل كما وعدنا بالبنين يلمؤون الأرض، فأعطانا الخير ولم يحرمنا أي فرح ، ذاك لأنّه يريدنا سعداء ويريدنا أنَّ نعرف أنَّ سعادتنا به، وبمعرفته هو أنَّهُ الاله الحقيقي. من يعرف هذا يُضحِّي بالخير المادي من أجل مُعطي الخير، نضحّي بكل ما نراه مصدر سعادة للوصول الى السعادة الحقيقة، الى الله، لأنَّه وعدنا، ونحن آمنّا بوعده. من هنا كانت لابراهيم جرأة التضحية بابنه، وللصائم متعة ترك لذة الطعام الفاني رغبةً بالوصول الى الطعام الذي لا نجوع إذا ما اكلناه.
4-الصوم عن اللحوم حنين الى العودة الى ما قبل الخطيئة. كان آدم في جنته يقتات بعشب الأرض ثَمر الشجر، لا حاجة له أن يقتل الحيوان كي يتغذّى من لحمه، يعيش السعادة في جنّته، هي نفسها الجنَّة التي صورها النبي اشعيا فجعل فيها الحملَ يعيش وادعاً مطمئنًا الى جانب الأسد، هذه الجنَّة لا قتل فيها ولا قاتل ولا مقتول، حتى الحيوان يأمن شر الموت ويفقدُ الوحش غريزة الافتراس، فكم بالحري الانسان.
فإذا صمنا اليوم عن اللحوم نكون قد عدنا الى جوِّ ما قبل الخطيئة، الى عالم الجنَّة فنكتفي لنعيش سعداء بعشب الارض وثمرِ الشجر .
وختاماً أقولُ لم يحدِّد المسيح أيامًا للصوم، وإن كان قد صام هو أربعين نهاراً وأربعين ليلاً، كما أنّه لم يحلّ الشريعة الموسوية بالصوم، إنَّما دعا الى التخلّي والتعفُّف وحملِ الصليب، فاذا بالصوم يقترن بمحبَّة القريب ولا بنفصل عن الزكاة والصلاة. فليس المطلوب أنْ نصومَ عن ما أحلّه الله لنا، وأن نفطر على ما حرّمه، وبكلام آخر، ليس الصوم أن نُمسِك عن الطعام ونفطر على الحرام، إنَّما الصوم، الى جانب كونه مرانٌ على الصبر والجلد وامتحان النفس أمام الرغبات والشهوات، نراه يحمل معنى الموت الذي يوحِّد الجميع، فتشعر الجماعة بأنَّها بعد معاناة التفرّق والتشرُّد تموت مع المسيح لتقوم معه.
الصوم يطلب إلينا أن تكون عقولنا وقلوبنا مرتفعة الى العلى، وهذا هو الانقطاع عن الأمس ِوالانطلاق نحو الغدِ.
بهذا نعرف أنَّ المسيحي اذا ما صامَ، فلله يصوم وإذا ما أكل فلله يأكل .