هي المواجهةُ الثانيةُ الخطيرةُ بين المسيحِ وأهلِ السلطانِ في زمانِهِ. بينَهُ وبينَ الذينَ يدَّعونَ الحقَّ بالميراثِ، وحجَّتهُم أنَّهم أبناءُ إبراهيم، هم أهلُ البيتِ وورثةُ ربِّهَ، ولا يحقُّ لأحدٍ أنْ يُشكِّكَ بسطانِهم وكلامِهم ومواقِفهم واعمالِهم. واذا بالمسيحِ وحدَه يهزُّ أركانَ مؤسستِهم ويضعُها بالميزانِ فتنقلبُ المقاييسُ ويتحوَّلُ أبناءُ إبراهيمَ هؤلاءِ، الى كَذَبةٍ يعملون اعمالَ ابيهِم الكذابِ، الذي لم يثبُتْ على الحقِّ، لأنَّ لا حقَّ فيه، ولم يُطِق سماعَ كلمةِ اللهِ لأنه ليسَ ابنَ الله.
إن كنتُم أبناءَ إبراهيم، قال المسيحُ لهذهِ الجماعةِ، لعملتُمْ أعمالَ إبراهيم، لكنَّكُم تطلبونَ قتلي لأني كلَّمتُكم بالحقِ الذي سمعتُهُ من الله، وهذا لم يعمَلَهُ إبراهيم. انتم أبناءُ إبليس ورغباتِ ابيكم تبتغونَ أن تحقِّقُوا. مَنْ كانَ مِنَ اللهِ يسمعُ كلامَ الله، فإنْ كنتُم لا تسمعونَهُ فلأنَّكُم لستُم مِنَ الله.
ارادَ المسيحُ أنْ يُبيِّنَ بوضوحٍ تامٍ لأهلِ السلطانِ في زمانِه ولنا اليوم، كيفَ يكونُ الالتزامُ، وما الفرقُ بينهُ وبين الانتسابِ الكاذِب. أنْ ننتسِبَ لابراهيم شيء، وان نلتزم أعماله ومبادئه شيءٌ آخر .
ارادَ ان يبيِّنُ التواصُلَ بالحق، من إبراهيمَ الى مَنْ يعملُ أعمالَ إبراهيم، ولو أتى في آخرِ الزمان، والتواصلَ بالكذِب من إبليس الذي أغوى المرأةَ وزرَعَ زُؤانَهُ في جنَّةِ الرَّبِ، الى مَنْ يعملُ أعمالَ إبليسِ التفريقيَّةِ، أمسِ واليومَ وغدًا.
كُلُّنا اليومَ ننتَسِبُ بفعلِ وجودِنا في المجتمعِ البشريِّ، الى أمورٍ عدَّةٍ، ولكن قلَّما ما نتلزمُ بمَنْ وبما ننتسِبُ اليه.
الى عائلةٍ ننتسبُ، الى مدينةٍ أو بلدةٍ او حيٍّ، الى حزبٍ او جماعةٍ او عشيرةٍ او منُظَّمَةٍ أو كنيسةٍ أو اخويّةٍ او فرقةٍ أو حركةٍ او نادٍ. ولا يستطيعُ واحدٌ ان يدَّعيَ الانتسابَ الى واحدةٍ من هذه كلّها، الا من التزمَ المبادئَ والنظمَ والاعرافَ والواجباتِ المفروضةَ على كلِّ من رغِبَ الانتسابَ حُرًّا الى هذه او تلك.
أن نتلزمَ، ذاكَ يعني التزاماً تجاه الذات اولا ثمَّ تجاه الآخرينَ، ومنهم الى الالتزامِ تجاه الله.
أمّا الالتزامُ تجاهَ الذاتِ فيعني اولاً أنْ نعرِفَ ذاتنا، وهذا مطلبٌ الهيٌّ وبشري معًا، وقد سعت اليهِ البشريَّةُ منذُ بدأَ الفِكْرُ بالبحثِ عن الحقيقةِ والسعيِ الى اكتشاف جواهرِ الاشياءِ ومميزاتِها. ومعرفةُ الذاتِ تفرِضُ، أن نعرِفَ أنَّنا صورةُ الله، على مثالِهِ خُلِقْنا، وأن نعرفَ انَّ كلَّ ما لنا إنَّما هو هبةٌ أعطيناهُ وزناتٍ ربّانيةٍ لنتاجرَ بها ونربح. ومتى عرفنا هذا، نسعى، إن كنَّا حقًا نعملُ اعمالَ أبينا، لأن نحافِظَ على صورةِ الله فينا، فلا نشوّهُهَا أو نجرِّحُها او نغطّيها ببراقعَ كاذبةٍ، تخفي حقيقةَ ذاتنا، ظنًّا منَّا أنَّنا نُجَمِّلُ هذه الحقيقةَ، ونزيدُ كمالَها واكتمالَها.
كَمْ مِنّا اليوم، يسعَى واعيًا أو غيرَ واعٍ، لِجعلِ ذاتِه على خلافِ ما خُلَقْت، فيحوِّلها بأعمالِهِ من صورةِ اللهِ الى صورةِ إبليس، بالكذبِ والرياءِ والاحتيالِ والتدجيلِ، ويسمِّي كلَّ هذا " شطارة" ويدعي أنّه بهذهِ الأساليبِ الماكرة، يسعى الى تحسينِ وضعِهِ الاجتماعيِّ. كلُّ ذلكَ على حسابِ إذلالِ الآخرين، وأكلِ حقِّهم وتحقيرِ كراماتِهم وسلبِ حريَّتهم.
كمْ منّا اليوم، ينسى أنَّهُ مخلوقٌ ، فيسعى لأن يجعلَ من ذاتِهِ إلهًا يَسجُدُ لهُ الآخرون، لجهلهِم أو تعاميهم أو خوفِهم. وذاكَ بالقهرِ حينًا والخِدَاعِ حينًـا، همُّهُ أن يصلَ الى رأسِ البرجِ في بابل، دونَ أن يدرِكَ انّهُ يقتل الله في قلبِهِ وفي سواه .
كم منّا اليوم، يأخذُ الوزناتِ العشرَ التي أعطاها الربُّ لنا، فيستغلُّ وجودَها فيه ويوجِّهُها عكسَ الوِجْهَةِ التي خُلَقَت من أجلِها. فيستعملُ قوَّتَهُ وعقلَهُ وجمالَةُ وجسدَهُ وابتكاراتِه، آلةً بيدِ الشيطانِ فيسيءُ الى ذاتِه والى سواه، ويكونُ نصيبُه، نصيبَ اولئكَ الذينَ باعوا الظلمةَ بالنّورِ فما ربحَت تجارَتُهم.
أمّا الالتزامُ تجاهَ الآخرينَ فيقتضي بأنْ نعرفَهم أولاً، ونعرفَ سُبْلَ مُعاطاتِنَا معهُم وتصرُّفنا بينهم، فندركَ أنَّهُم، هُم ايضاً صورةُ اللهِ، على مثالِه خُلِقوا، وانَّهُم إخوةٌ لنا بالمسيحِ الذي يتجسُّدِهِ وموتِه وقيامتِه، جعلنا إخوةً، وأبناءً لله الواحِدِ، وشركاءَ بالميراثِ السماوي. متى عرفنا هذه الحقيقةَ والتزمنا بما تفرضُهُ علينا، امتنعنا عنِ المتاجَرة بالآخرين، وارتدعنا عن اغتصابِ حقوقِهم واحتجازِ حريّتهم وسلبِهم ارادَتِهم ومصادرةِ ممتلكاتِهم وتوجيهِ قرارهم. وعرفنا، انَّ لكلِّ واحدٍ منهُم، مسكِنًا في البيتِ السماوي، فلا نعودُ نحاولُ أن نجعلَ منه، رجلاً كان او امرأة، سِلعَةً تُباعُ وتُشترى، واداةَ متعةٍ ووسيلةَ تسليةٍ نستخدمُها كما الاشياءُ، ونرميها في آخرِ المطافِ حجرًا مرذولاً. كما نعرفُ أنَّ الآخرينَ مثلُنا تماماً، لهُم قوانَا وضعفُنا، لهُم حسناتُنا وسيئاتُنا، فلا نرميهم بأي حجرٍ لأنَّنا برميهم، إنَّما نرمي ذاتنا التي لا نَراها، وأعمالَنا التي أنكرنا فعلَها، وأخطاءَنا التي سترَ كبرياؤنا عيبَها، فبتنا نرى القذى في أعيُنِ الآخرين ولا نرى الخشبَةَ في أعُينِنَا .
وأنْ نعرفَ الآخرين يعني ايضاً أنْ نعرفَ حجمهُم الطبيعيَّ وامكاناتهم المحدودةَ، فنرضى بهم كما هُمْ سعيًا الى تصحيحِ الاعوجاجِ بنا وبهِم، فلا تقفُ بينَنا وبينَهُم حواجزُ اللونِ والعرقِ والدينِ الموروثِ، والعاداتِ المتناقلَةِ. ولا تحولُ بينَنا وبينَ القبُول بهِم إخوةً لنا، عوائقُ المرضِ والعاهاتِ وانعدامِ الثقافَةِ وتمايزِ الطبقاتِ، بلْ نرضَى مؤمنين، أنّ كلَّ هذه الفوارقِ هي من ملكوتِ هذا العالمِ الزائلِ، امّا هناك، فكلُّ هذه تزولُ، ولا يبقى إلا جوهرُ الانسانِ الواحد، الذي ألبستهُ الحياةُ الاجتماعيةُ ستائِرَ متنوعةً، كادت تغطي، أو أفلحَتْ في تغطيةِ واقعِهِ الشريفِ أصلاً، عنيتُ صورةَ الله .
زِدْ على هذه أنَّ معرفتنا للآخرينَ تجعَلُنا ندركُ مَنْ هُم الآخرونَ بالنسبةِ لنا، فنتورَّعُ عن تأليهم، مهما كانُوا ومن كانُوا ، ونكفُّ عن تصغير ذاتِنا أمامَهُم، جاعلينَ منهُم أربَابًا لنا، ومن نفسِنا آلةً بأيديهم، يكبُرونَ بها وعليها، فننسَحِقُ نحنُ لينموا هُم، غافلينَ عن كونِهم بشرًا مثلنا ليسَ إلّا، مخلوقينَ مثلَنا لنحيا جميعًا للمسيح، لا لنحيا مِنْ أجلِهم ونموتَ من أجلِهم ونُهمَلَ نكرةً بينَ خلقِ الله.
أمّا الالتزامُ الأهمُّ في جُملَةِ هذهِ الالتزاماتِ فهُوَ التزامُنا باللهِ لأنَّ المنطلقَ الاولَ في كلامِ المسيح " مَنْ كانَ من اللهِ عملَ اعمالَ الله". والتزامُنا باللهِ يعني ايضًا أن نعرفَهُ، ونعرفَ مشروعَهُ مِنْ أجلِ البشَر.
أن نعرفَهُ، ذاكَ يعني أن يهتمَّ عقلُنا وقلبُنا، بِمَنْ هوَ أجدرُ بالاهتمام، والباقي يُعطَى لنا مجّانًا. يقولُ يوحنَّا في انجيلِه " الحياةُ الأبديةُ هيَ أن يعرفوكَ انتْ انّكَ الالهُ الحقيقيُّ، وهل هُناك مطلبٌ اسمى مِنْ أنْ ينالَ الانسانُ المحدودُ المائتُ أرِثَ الحياةِ الأبدية؟ أوليس همُّ البشريَّةِ وقلقُها الأوحدُ، أنَّها عُرضَةٌ للموتِ والفناءِ؟ فاذا ما أُعطيت الحياةَ الأبديَّة بمعرفةِ اللهِ، فهلْ يُعقلُ أن نتخلَّى عن هذهِ المعرفةِ – الحياة، لنِتَلهَّى بمعارِفَ اُخرى مؤَدّاها الى الموتِ والزوال؟.
أن نعرِفَ الله، يعني ان نعرفَ مشروعَهُ ونلتزمَ به، ومشروعُهُ هو خلاصُ الناسِ وسعادَتُهم وسُكنَاهُم في ملكوتِهِ السرمديِّ. والتزامُنا هذا المشروعَ، يلزِمُنا أن نعملَ على سعادَةِ اخوتِنا الناسِ بعقلِنا وسائر قوانا، لأنَّ كلَّ خطوةٍ نخطوهَا في سبيلِ سعادةِ الناسِ هُنا على الارض، وتجميل عالِمنا هذا، إنَّما هي خطوةٌ تقرِّبُنا مِن ملكوتِ اللهِ، وتجعلُنا نعملُ أعمالاً شاءها اللهُ وعملَها، وايُّ سعادةٍ، هي تلكَ التي يشعُرُ بها الانسانُ حينَ يعملُ اعمالَ الله.
أمّا الطريقُ التي تؤدِّي الى تحقيقِ هذا المشروع، فقدْ رسمَها المسيحُ كلامًا ومنهجَ حياةٍ، حين زرعَ في قلوبِ الناسِ وعقولهم مبادئَ الحقِ والخيرِ والجمال، وجعلَ اطارَها المحبةَ والخدمةَ، من أجلِ أن يشتركَ الكلُّ في هذا الحصادِ ويكثرَ الفعلةُ، ويُخزى إبليس، فتموتُ تلكَ الأفعى التي أغوَتِ الانسانَ وغيَّرت مسارَ حياتِه، فنقلْتهُ من عالَمِ الحريَّةِ الى أرضِ العبوديَّةِ.
هذه هيَ الامثولةُ التي ارادَ المسيحُ أن يعلِّمنا إيَّاها في مواجهته، مع كلِّ الذينَ يدَّعون أبوَّةَ إبراهيم. أفهمَهم وأفهمَنا، أنَّ الإدعاء شيءٌ والعملَ من أجلِ ان يتحقَّق فينا إيمانُ إبراهيم وتضحيتُه شيءٌ آخر، كما علّمنا أن نلتزمَ المشروعَ الذي وُعد به ابراهيمُ وحقَّقهُ المسيحُ، والاَّ فإنَّ اللهَ قادرٌ على أن يَخلقَ من الحجارةِ أبناءً لابراهيم .