هو المسيحُ، يمشي قُدُمًا نحوَ الجلجُلَةِ، رافضًا كلَّ الأكاذيبِ الباطلَةِ التي كانَ التقليديُّونَ في زمانِهِ يتمسَّكونَ بِهَا، على أنَّها مقدّساتٌ ثابتةٌ لا يجوزُ مسُّها أو رفضُهَا أو تحويرُها وتطويرُهَا. لِذا نراهُ في أكثرِ المواقفِ يحذِّرُ أتباعَهُ عامةً وتلاميذَه خاصةً، من الوقوع في شَركِ هذه التقاليد لئلَّا يغرقُوا في متاهاتِها العالميَّةِ فيتحولوا عن المُهِمَّة التي سوفَ توكَلُ إليهم، مهمَّةِ التبشيرِ بملكوتٍ جديدٍ ليسَ من هذا العالمِ البالي.
أنظُروا، قالَ المسيحُ لتلاميذه، أيَّاكم وخميرِ الفريسيين وخميرِ هيرودوس. هذا الخميرُ العتيقُ المُشبَعُ بالفسادِ الروحيِّ والاجتماعيِّ والسياسيّ. فالفريسيونَ وما يُمثلون من كلاسيكيةٍ يهوديةٍ، باتَ معها الإيمانُ تمسُّكًا بالحروف ِالجافَّةِ التي وردتْ في الكتُبِ المقدَّسةِ وفي شروحِها المطوَّلةِ العقيمة، كلاسيكيةٍ بعدَتْ عن روحِ العلاقةِ الطيِّبَةِ بينَ اللهِ والناسِ، تلكَ التي عرفنَاها مع الآباءِ الأوَّليين. خميرُ الفريسيين هو الركودُ والخنوعُ والابتعادُ عن انطلاقَةِ المؤمنِ نحو ربِّهِ انطلاقةَ إبراهيمَ نحو جبلِ التضحيةِ دون تردُّدٍ أو تساؤلٍ مريبٍ، وانطلاقةَ موسى في صحراءِ التحرُّرِ غير عابئ ٍبما فيها من مخاطِر العطشِ والجوع ِوالوحشِ الكاسرِ، وانطلاقة ايليا الملتهبةَ حماسًا للربِّ الواحِد تحرُقَ الذبيحةَ بنارٍ تنزِلُ من السماءِ رهانًا على صدقِ النبيِّ وصِدق إلههِ.
حينَ حذَّرَ المسيحُ تلاميذَهُ من خميرِ الفريسيين، أرادهُم خبزًا جديدًا يبدأ معهُم عالمَهُ الجديدَ، الذي يتخلَّى عن قيودِ المكتوبِ، ليحيَا برحابةِ المحبَّةِ. أرادهُم جُدُدًا، حجارةً حيَّةً في المشروعِ المستقبليِّ الجديد الذي يمتدُّ من يومِ لقائهِم المسيحَ إلى أبدِ الأيامِ، لذا قطعَ بينهُم وبينَ ماضيهِم القريبِ والبعيدْ، فَصَلَهُم عن كُلِّ المعوقاتِ التي قدْ تقِفُ عثرةً في طريقٍ رسمَها لهُم وساعدهُم بالحبِّ والروح ِعلى اجتيازهِا كاملةً. جعلَ مِنهُم تلكَ الخوابيَ الجديدةَ التي تصلحُ للخمرةِ الجديدةِ، فلمْ يعُدْ يخشىَ أنْ تُكسَرَ الخوابي وتُراقَ الخمرُ. لذا غيَّرَ عقولَهُم وبدَّل مقاييسَ التعامُلِ الأفقيِّ بينَ الناسِ في رؤوسِهم، فعلَّمَهُم السُّبلَ الجديدةَ التي تتماشَى معْ ملكوتٍ بعيدٍ عن ذهنيَّةِ الفريسيينَ وهيرودوس، ملكوتٍ كبيرهُ خادمٌ وعظيمُه إنَّما بالمحبَّة يعظُم، ملكوتٍ ليسَ فيه سيّدٌ ومسودٌ لأنَّ الكلَّ إخوةٌ والسيِّدُ واحدٌ هو الآب.
لمثلِ هذَا الملكوتِ، لا يصلُحُ خميرُ الفريسيينَ المبنيُّ على أسُسٍ أرضيةٍ آنيَّةٍ، تنفِي في مُعظمِها البعدَ الإلهيّ الذي غطَّتْهُ مع الزَّمنِ أيدِي الناسِ واجتهاداتُهُم، عنيت بُعد المحبَّةِ والتَّسامُحِ والإِخاء.
من هُنا جاءت الثورةُ على خميرِ الفريسيينَ العتيقِ. ووجبَ نفضُه كاملًا، لا ترقيعُه، لأنَّ الثوبَ القديمَ لا يُرقَّعُ بقماشٍ جديدٍ يزيدُ في خرْقِه وقُبحِه. وهذَا ما استوجبَ حركةً تصحيحيةً في ذِهنِ التلاميذِ، لئلّا يظلُّوا على ما كانُوا عليه فتفشَلُ المهمَّةُ.
لقد قيلَ لكُم لا تقتلْ، لأنَّك بالقتلِ تستوجِبُ الحكمَ أمّا أنا فأقولُ صالِحْ أخاكَ قبلَ أن تقدِّمَ قربانَك. وقيل لكم لا تزنِ ولا تحنتْ بالوعدِ والعينُ بالعينِ والسنُّ بالسنِ. أما أنا فأقولُ أحبّوا أعداءكُم وصلُّوا لأجلِ الذين يضطَّهدونكُم، لكي تكونوا أبناءَ أبيكُم الذي في السماواتِ.
هذه العمليَّةُ الانقلابيَّةُ في الذِّهنِ والتصرّفِ، بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن خميرِ الفريسيينَ الذين يطبِّقونَ الشريعةَ ولا يتجاوزونَها فغدَوا عبيدًا للشريعة، قيَّدهُم الحرفُ والناموسُ فجفَّ فيهم الإيمانُ وماتَ الحبُّ، فباتوا لا يصلحون لمثل ما جاءَ يبنيهِ المسيحُ. وما جاء يبنيه، يتطلَّبُ نارًا مُتَّقِدَةً وانطلاقًا لا يقيِّدُه قانونٌ ولا تحدُّهُ شرعةٌ. أرادَ المسيح ُرجالَهُ أحرارًا من كلِّ قيْدٍ، حتّى ذاكَ الذي ينظِّمُ حياتَهُم ويرشِدُهُم إلى سوي السبيلِ، لأنّه خشيَ من أنْ يغرَقُوا كأسلافِهم في النصِّ والشرح ويغفَلوا عن الهدفِ. لذا لخّص لهُم الكتابَ بكلمتين: أحبِب اللهَ من كُلِّ عقلِكَ وقلبِكَ وأحبِبْ قريبَكَ كنفسِكَ.
وكما حذَّرَ المسيحُ تلاميذَهُ من خميرِ الفريسيينَ العتيقِ، حذَّرَهُم من الكتبةِ الذينَ يحبُّونَ التجوُّلَ بالحُللِ الفضفاضَةِ، ويحبُّونَ التحياتِ في الساحاتِ والمجالسَ الأولى في المجامعِ، والمتكآتِ الأولى في الولائمِ. هذا التحذيرُ هو تكملةٌ للثورةِ التي شنَّها على القديمِ البالي المتحجِّر، فرفضَ كلَّ المظاهرُ الكاذبَةِ التي تُحاولُ أن تستُرَ واقِعَ صاحِبِها الهشَّ المتداعي. ثارَ على أولئِكَ الذينَ يكبرونَ بمناصبِهم ومظاهرِهم، فيحاولونَ أن يخدعوا الناسَ بما تراهُ العينُ فَتَلهَّى بالمظاهرِ عن الباطنِ، وما الحُللُ الفضفاضة التي تحدَّث عنها هنا، سوى ستائِرَ تغطِّي عيوبَ لابسيها، تمامًا كتِلكَ التينةِ الورقاءِ التي تجذُبُ الناظرَ إليها باخضرارها ووارفِ ظلِّها، لكنَّها تُخيِّبُ أملَهُ إذَا ما طلبَ منها ثمرًا يُشبِعُ به جوعَهُ أو يسدَّ عوزَهُ وحاجتَهُ. تلك التِّينةُ التي لعنَها المسيحُ مرّةً فيبِسَتَ، ما هي إلّا هؤلاءِ الكتبةُ الذين يخدعونَ الناسَ بحُلِلَهم الفضفاضة، أمَّا قلبُهم ففارغٌ من كلِّ رحمةٍ. هم كالقبورِ المكلَّسةِ يرى الناسُ بياضَها أمَّا داخِلُها فملِيء بالعظامِ الباليةِ والدودِ الذي لا يموت.
في رفضِهِ لهذا الواقع، ثارَ يسوعُ على ما نسمِّيهِ اليومَ بروتوكول الاحتفالاتِ والمناسباتِ، الذي يُغرِقُ الناسَّ بهمِّ فلانٍ وفلانٍ ومقعدِ فلانٍ وفلانٍ ولون الكرسي وطريقةِ التوجهِ إليه بالكلام؛ كلُّها مظاهرُ خدَّاعةٌ باطلةٌ تجعلُ الإنسانَ يتلهَّى عن قصدِهِ النهائيِّ بما هو شكليٌّ وتافِه. ثورةُ المسيحِ على هذا البروتوكول الظاهريِّ تدلُّنا، كما دلّت تلاميذَهُ يومذاك، أنَّ ملكوتَهُ ليسَ من هذا العالم الذي يحسِبُ للمنظَرِ ألفَ حسابٍ، ولا يصلُ الى جوهرِ الأشياءِ وحقيقتِها بأي حساب. ملكوتُه لا يقيمُ حسابًا لمَن يكبُرُ بثوبهِ وردائِه ومنصبهِ، إنَّما لمن يكبُرُ بعطائِه وخدمتهِ وحبِّه. لِذا أوصَى من شاءَ أن يتبعَهُ بأن يتنقَّى مِنْ هذه الذهنيَّةِ العفنةِ، فمنْ شاءَ أنْ يكُونَ كبيرًا فليخدُم إخوتَهُ، ومن شاءَ أن يُعَدَّ عظيمًا، فليتعاظَم بالخير، ولا يدَّعي النقاوةَ والطُّهرَ والكِبَرَ، إنَّما العظمَةُ تكونُ بمعرفةِ حقيقةِ النفسِ والاعترافِ بالعجزِ أمامَ عزَّةِ اللهِ وعظمتِه، تمامًا كذاكَ العشارِ الذي دخلَ بيتَ اللهِ يُصلِّي فجلسَ في زاويةٍ، محنيَّ الرأسِ خجلاً من ضعفِهِ وسقطاتهِ. لم يطلُبْ كرسيًّا مميزًا باللونِ مُعَرَّقًا بالمخمل والبرفير كي يجلِسَ بحضرةِ اللهِ. أنّما وقفَ محنيَ الرأسِ خافَت الصوتِ دامَع العين، لعلِمهِ أنَّ كلَّ العروشِ تصغُرُ وتحتقَرُ امامَ عرشِ اللهِ السماويَّ، وكلَّ الحضراتِ تتضاءلُ وتتلاشى في حضرة الحاضرِ ابدًا.
ثورَةُ المسيحِ من أجلِ الملكوتِ الجديدِ، بيَّنت للتَّلاميذِ عيبَ من سبقهُم في المسؤوليةِ، لئلاّ يقعُوا في ما وقع فيه سواهُم. حذَّرهم منَ التقيُّدِ بالحرفِ الخانقِ، ومن خداعِ الناسِ بالمظاهرِ الكاذبة. وتابع معهم التعرُّفَ الى مسؤولي الأمس الذينَ يأكلونَ بيوتَ الأرامل بحجَّةِ تطويلِ صَلَواتِهم رياءً. لقد وجَّهَ الكلامَ قاسيًا إلى الكتبَةِ الذين تاجروا بالمقدّساتِ فاستغلُّوا طيبةَ الناسِ وسلامةَ قلوبهم. ليأكلوا مالَهُم وبيوتَهُم بحجَّةِ أنَّهم يصلُّون لأجلِهم، وطويلاً يصلّون.
بهذا الموقفِ المُخيفِ يوقِظُ المسيحُ في ضميرِنا عامِلاً أخلاقيًا خطيرًا، هوَ عدمُ التساهُلِ مع الذاتِ وخلقِ الحُجَجِ الكاذبَةِ لتبريرِ أعمالٍ نقومُ بها، وقصدُنا يختلفُ تمامًا عن قصدِ الذينَ أوكلوا الينا القيامَ بهذهِ الاعمالِ. فالناسُ الطيبونَ المؤمنونَ البسطاءُ القلبِ، يطلبونَ الصلاة منّا شكرانًا للهِ وطلبًا لرحمتهِ وعفوِه، فنقابِلُهُم بما ليسَ في قصدِهم، تمامًا كما الكتبةُ، فنأكلُ مالَهُم وبيوتَهُم، وكأنَّ ملكوتَ السماواتِ يباعُ ويشرى وكأنَ المفتاحَ في جيوبنا لا يخرُجُ الاَّ اذا امتلأت ولا يفتحُ بابُ الجنَّةِ الا اذا أطبقت ايدينا على مالِ الناسِ. وحينَ اصابَ المسيحُ هذا المرضَ انّما اصابَ كلَّ اساليبِ الرشوةِ والاتجارِ بأرزاق الناسِ وإيهامِهم أنَّهُم يُخدَمون، في حين خيرُهُم يُسلَبُ ومالُهم يُنهب.
حاولَ المسيحُ أنْ يفُكَّ الارتباطَ الذي عقدَهُ الكتبةُ والفريسيونَ بينَ المالِ والصلاة. بين عملِ الانسانِ وجهدِه وبينَ الأجرِ المادي، بينَ الذَّهبِ والغفران، وحذَّرَ منْ أن ينتهي الأمرُ الى المتاجرةِ بما أُعطيَ مجاناً ليُعطى مجانًا، وقد عرف انَّ الخطرَ الأدهى يكمُنُ في هذا، فحذَّرَ من عبادةِ المالِ لانَّ القلبَ يكونُ حيثُ الكنزُ يكون.
لذا، ثار المسيحُ، وأكادُ اقولُ نقَمَ، على اولئِكَ الذين يعبدونَ اللهَ باطلاً ويكرِّمونهُ بشفاهِهم لانَّهُم يعملُونَ من وحيِ وصايا الناس بعيدًا عن المحبَّة. همُّهم الاكتفاءُ؛ والاستغناءُ عندَهُم أضحى استغناءً عن اللهِ وتدبيرِه، لا غِنًى به وتسليمًا لعنايته.
من مثِل هذه المخاطرِ خافَ المسيحُ على تلاميذه، وخافَ إن هُمْ لَمْ يتخلَّصُوا منها برفضِهم لخميرِ الفريسيِّين وأساليبِ الكتبةِ، أن يفشَلوا في كرمِ الربِّ، وينمو الشوكُ حولَ القمْحِ فيخنُقُه ويموتُ الرجاء.